
هـكذا يأتي شهر جانفي من سنة 2025 بأيامه وساعاته ودقائقه على النهاية، وهكذا هي المناسبتين تمران في خضم الأحداث، فلا أحـد استوقفـته الذكرى ولا واحدا فكر ودبّر أو قدّر حجم ومكانة وصورة من مرت علينا ذكراهما، ولم تستوقفـنا عظمة مـربي الأجيال المفكر الكبير وفيلسوف زمانه الأستاذ الدكتور “عبد المجيد مزيان” رحمه الله، من تكونت وتخرجت على يديه نخبة من أعلام ومفكري الجزائر في العصر الحديث، والشهيد بطل الواجب الدكتور “ابن عودة بن زرجب”…
منذ أربعة وعـشرون سنة رحل الدكتور “عـبد المجيد مزيان”، تاركا وراءه تراثا ضخما وأسفارا فيها خبر ما قبلنا وحل ما تشاكل علينا فيها خيرنا وثمار إصلاحنا، ترك نظريات لو طبقها أسلافه لخرجوا من أزمتنا الاقتصادية، وهو الذي حلل نظريات الفيلسوف وعالم الاجتماع عبد الرحمن ابن خلدون وأخرج كتابه (النظريات الاقتصادية عند ابن خلدون)، ولكن مصيره يـبقى كمصير عظماء كـثر أنجبتهم الجزائر ولكنها فرطت فيهم وتخلّت عن تراثهم الضخم.
المفكر الكبير.. “عبد المجيد مزيان”
فهذا المفكر الكبير “عبد المجيد مزيان”، الذي وافـته المنية منذ 15 جانفي 2001، هاهو النسيان يطاله…العبقرية الفذة في العلم والدعوة والجهاد والنهضة والفكر والإيمان، إنه من أبناء مدينة تلمسان التاريخ الضارب جذورها في أعماق الحضارات، حيث ولد مع مطلع شهر مارس سنة 1926، ينتمي إلى إحدى العائلات العريقة بعاصمة الزيانيين، حفظ القرآن الكريم في الكتّاب ولم يتجاوز سن التاسعة من عمره، وقد أخذ مبادئ اللغة العربية ثم التحق بمدرسة دار الحديث ومنها إلى المدرسة الفرنسية.
وعند بلوغه العشرين، انتقل إلى مدينة الرباط بالمملكة المغربية وانتسب إلى جامعتها تخصص في مادة الفلسفة الحضارة الإسلامية، ثم منها تحصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة، كان أستاذا ومربيا ورجل علم وسياسة وفكر، كما ذكر عنه مقربوه من الرعـيل الأول الذين لبوا نداء الواجب مجاهدا وعضوا في جيش التحرير الوطني في الولاية الخامسة التاريخية ولقب بالاسم الثوري “صلاح الدين”، عينته قيادة الاتصالات العامة في إذاعة الجزائر الحرة بتونس سنة 1956، ثم عاد إلى المغرب الشقيق فأسندت له الأمانة العامة لإتحاديه جبهة التحرير الوطني من سنة 1957 إلى غاية 1962، وبعد الاستقلال تقلد الكثير من المسؤوليات وترقى إلى مناصب سامية إذ عين واليا لولاية بشار، ومع نهاية 1963 التحق برئاسة الجمهورية” حيث عين مديرا لديوان الرئيس “أحمد بن بلة” ثم مباشرة تقلد منصب الأمين العام لوزارة الداخليـة إلى غاية سنة 1965، ليتفرغ بعدها للعمل الفكري والتدريس، حيث عين مدرسا بجامعة وهران، ثم أستاذا للفلسفة وعلم الاجتماع بجامعة الجزائر ودرس لأول فوج – في تاريخ الجزائر – مادة الفلسفة وتخرج على يديه تلاميذ هم من الإطارات والأساتذة والباحثين.
كما ساهم في الكثير من الدراسات والبحوث ونشّـط عديد المداخلات والندوات وفي ملتقيات الفكر الإسلامي، ولم تغريه المناصب، بل بقي منكبا عن البحث والكتابة والتنقيب في التراث الفلسفي والفكري، خاصة بعد تقلده منصب مدير جامعة الجزائر في سنة 1981 ، ثم تعيينه وزيرا للثقافة سنة 1982 وفي 1984 وزيرا للثقافة والسياحة إلى غاية 1986، حيث ساهم في تنشيط الساحة الفكرية وفي النشر وتعميم النشاطات الثقافية والندوات عـبر الولايات في كل المراكز والنوادي والملتقيات، ليختار بعدها من طرف الرئيس “اليمين زروال” رئيسا للمجلس الإسلامي الأعلى إلى غاية وفاته.
كما كان في نفس الوقت نائبا لرئيس المجمع الجزائري للغة العربية، بالإضافة إلى انتسابه وعضويته في هيئات علمية ولغوية دولية منها الأكاديمية العربية للمفكرين العرب بالقاهرة، الأكاديمية الملكية المغربية وبيت الحكمة التونسية.
الدكتور “عـبد المجيد مزيان”، كان يستمد أفكاره من أفكار جمعية العلماء ورجالها…كان باحثا متمكنا من اللغتين العربية والفرنسية وكاتبا بارزا، ساهم بنشر مقالاته عـبر العديد من الدوريات العربية والمجلات الثقافية والمتخصصة منها مجلة منظمة “اليونيسكو” بباريس، ومجلة المجلس الإسلامي الأعـلى مع التزامه بالنشر في مجلتي “الأصالة” و”الثقافة” هذه الأخيرة التي كان مساهما رئيسيا في مقالاتها والتي كان يشرف عليها ويتابع نشرها، كما كان مقدما لبرنامج إذاعي عبر القناة الفرنسية الثانية، وبالتنسيق مع معهد الدراسات العربية العليا بالفاتيكان، ساهم في ندوات حول الإسلام والتسامح وحوار الحضارات، إضافة إلى ذلك عرف باهتمامه الكبير بالعلوم الإسلامية، داعيا إلى الاستفادة من الفكر الخلدوني والثقافة الإسلامية، وكما كان قريبا من قضايا مجتمعه اعتبر من المحللين للعلاقات والظواهر الاجتماعية، اهتم بالحضارة الإسلامية والتّعريف بالإسلام وتجديد الفكر الخلدوني من خلال نظرياته الرائدة حول الفكر الاجتماعي والاقتصادي، “فتأثر به وتتبع طرحه حيث سمح له أن يكون من الأوائل في الجزائر مهتما بالمجتمع وأحواله، بل الأكثر من ذلك تخصصه في دراسة علم الاجتماع الإسلامي”، ناقش تاريخ السلفية وما علقت به من ملابسات، وحاضر حول السلفية عند “جمال الدين الأفغاني” وحول ابن خلدون والتصوف.
الراحل ترك لنا كتب ومقالات ودراسات عديدة، منها كتاب “فلسفة الإسلام الاجتماعية” باللغة الفرنسية، والبحث القيم الموسوم بـ “النظريات الاقتصادية عند إبن خلدون ” بالعربية، حيث يعتبر هذا الكتاب من بين الدراسات التي خصصت للاقتصاد عـند ابن خلدون تناول فيها المرحوم” واقع المجتمع الإسلامي اقتصاديا، والطبقية والإنتاج وعلاقات الإنتاج والعمل، وفي أثناء رئاسته للمجلس الإسلامي الأعلى وجد معارضة كبيرة لأفكاره التي كانت جريئة، وفي خطابه الذي لم يقبله الكثير، حيث نادى بإعادة تعريف الإسلام الذي قال بأنه ليس الإسلام الذي يفهمه المتطرفون والوصوليون.
69 سنة تمر على استشهاد الدكتور “ابن عودة بن زرجب”
تسترجع عاصمة الزيانيين هذه الأيام أيضا الذكرى الـ 69 لاستشهاد البطل الدكتور الشهيد “ابن عـودة بن زرجب”، الذي سقط في ميدان الشرف بعـد أن أنهك الاستعمار الفرنسي في البحث وفتح تحقيقات حول هذا الرجل الذي التحق مبكرا بإخوانه وكان لهم الدرع الواقي، هذا الرجل الذي ترعرع وسط عائلة محافظة وشعبية وهو من مواليد 09 يناير 1921 بتلمسان، وهو ابن “غـوتي” وابن “عصمان فطيمة”، أين تلقى تربية حسنة مع إخوته ودرس بـ “كوليج دوسلان”، “ابن خلدون” حاليا إلى أن تحصل على شهادة البكالوريا سنة1941 شهر جوان، ولمتابعة دراسته التحق بكلية الطب بجامعة باريس وهناك بعد احتكاكه بالطلبة ونظرا لأفكاره الوطنية تكون لديه حس سياسي جعله ينخرط في صفوف انتصار الحريات الديمقراطية، وبين أحضان هذا الحزب وسياسته، بدأ عمله السياسي حتى عين وفي ظرف وجيز أمينا عاما لجمعية الطلبة المسلمين بفرنسا، كما أن مستواه التعليمي وحصوله على شهادة وتربعه على الجائزة الأولى الخاصة باللغة الألمانية فتحت له آفاقا واسعة.
وفي 05 جويلية سنة 1948، قـدم أطروحة الدكتورة في الطب حول موضوع “الورم وسرطان الدم”، وبعـد نجاحه في نيل هذه الدكتوراه عاد إلى أرض الوطن وإلى مسقط رأسه تلمسان، ليتفرغ لمعالجة المرضى بمقر سكناه، حيث كان يكتب الوصفات باللغة العربية ولما انطلقت الشرارة الأولى للإعلان عن بداية الثورة كان الشهيد “ابن زرجب” من الأوائل والسباقـين في تدعيم صفوف الثورة، حيث استغل مهنته في استقبال المرضى بمنزله والذي حوله إلى مركز لالتقاء الإخوة، وكونه كان مختصا في معالجة الأطفال ذاع صيته كطبيب بكل المنطقة، مما دفعه إلى مواصلة التحضير في الخفاء للعمل الثوري، وبحكم شهرته فقد أصبحت لديه عدة اتصالات مع شخصيات من الوطن، أين بدأ في تكوين خلايا المقاومة دون أن يعلم أحد بذلك.
كما أن بمكتبه وحسب بعض المجاهدين ومن عرفوا خصال الرجل ووطنيته، كان يلتقي بالمجاهدين والمسلمين بصفتهم مرضى وينقل إليهم التعليمات، كما كان مقره مركزا لتبادل المعلومات ما بين الولايات المجاورة هذا من ناحية، أما من ناحية أخرى فكان يستغل مهنته في ملء سيارته بالأدوية وكل ما يحتاجه المجاهدون ويأخذه إليهم ويتفقدهم ويعالجهم، وكم من مرة كان يقضي ليالي معهم بالجبال، حيث حضر عدة مواجهات مع الاستعمار الفرنسي، ونظرا لحنكته وثقافته وحبه لوطنيته فكر الشهيد الدكتور في تطوير الإعلام وإعطائه نجاحا كبيرا للثورة، فكر قي شراء آلة نسخ رونيو وسخرها لخدمة القضية الوطنية فاقتناها من إحدى المكتبات هذه الآلة.
تم اكتشاف أمره ومتابعة عمله إلى أن توصلت التحريات إلى تحرير محضر ضده وإصدار الإدارة الاستعمارية أمرا بمنع هذه الآلة للاستعمال المدني، تم إيقافه من طرف القوات الفرنسية التي عذبته أشد العذاب وطافت به بمراكز التعذيب وتفننت في تعذيبه حتى يقر أين وضع الآلة والتعرف على مكانها، لكن شهامة الرجل وشجاعته أدت به إلى تحدّي كل ذلك ولم ينطق بكلمة، إلا أن السلطات الاستعمارية زادت من تعذيبه والانتقام منه كونه رجلا مثقفا وطبيبا سوف يفسد عليها حساباتها، ظانة أنها إن قضت عليه قضت على الثورة لكن حساباتها كانت خاطئة، فكانت كلما قضت على واحد ظهر لها العشرات.
وفي17 جانفي من سنة 1956 الذي كان يوم الثلاثاء، نقلت فرقة من الدرك الوطني الرجل رفقة مجاهدين آخرين، إلى منطقة أولاد حليمة بدائرة سبدو جنوب غرب تلمسان، على بعد حوالي 30 كلم من عاصمة الولاية وأعدم هناك رميا بالرصاص، حيث لازال مواطنو هذه المنطقة يحتفظون بصورة البطل الشجاع، وقد شهدت جنازة المرحوم ودفنه بمقبرة سيدي سنوسي لمدينة تلمسان تظاهرة عارمة، مما أدى بالسلطات الفرنسية إلى إرسال قوات الأمن وتفريق المتظاهرين بقمعهم وزج العديد منهم في المعاقل ومراكز الأمن، وتبقى بعض التأويلات أن الرجل مات تحت التعذيب ولكن السلطات الفرنسية ولتمويه جريمتها أنها نقلت الرجل ميتا وأجلسته بمقعد السيارة وسط عسكريين وأحد المجاهدين في سيارة أخرى كأن الشهيد أراد أن يبين لهم المخبأ أين توجد آلة النسخ، وبهذا المكان أنزله العساكر آمرين المجاهدين بالالتفات إلى الجهة الأخرى وأطلق عليه الرجل الرصاص بحجة أنه حاول الفرار لذا أطلق عليه الرصاص.
أمـيـر. ع