تكنولوجيا

هيوماين تشات: كيف يرسم مستقبل الذكاء الاصطناعي العربي؟

عندما أعلنت شركة “هيوماين – Humain” السعودية إطلاق تطبيق ” هيوماين تشات  – Humain Chat”.وهو تطبيق محادثة يعمل بالذكاء الاصطناعي مبنيّ على نموذج اللغة الكبير “ALLAM 34B”. سارع كثير من العناوين الإخبارية إلى وصفه بأنه إجابة المملكة على “تشات جي بي تي”.


 

هذا الوصف قد يكون مناسباً كتشبيه سريع. لكنه يغفل الصورة الأكبر. “هيوماين تشات” ليس مجرد روبوت محادثة آخر. إنه مشروع تقني مصمم بعناية ومرتبط بالثقافة وموجَّه استراتيجياً.

كما أنه يعكس الاتجاه الذي تسلكه السعودية وربما العالم العربي بأسره. في مجال الذكاء الاصطناعي. التعامل مع هذا الإطلاق فقط على أنه خبر عن “تطبيق جديد” هو تجاهل للأبعاد الأعمق. وهي السيادة التقنية والتمثيل الثقافي والمنافسة الإقليمية وحتى أخلاقيات الذكاء الاصطناعي.

الرئيس التنفيذي للشركة طارق أمين. عبّر عن ذلك بوضوح حين قال في مقابلته الخاصة مع “الشرق الأوسط” بداية الشهر الجاري: «علّام ليس مجرد نموذج لغوي ضخم آخر. بل هو إعلان واضح أن العالم العربي يمتلك القدرة على ابتكار وتدريب وتشغيل ذكاء اصطناعي بمستوى عالمي، وبمعاييره الخاصة».

 

هيوماين تشات .. ما وراء الإطلاق

من أبرز ما يميز “هيوماين تشات” أنه طوّر ودُرّب ويستضاف بالكامل داخل السعودية. النموذج الذي يقف خلفه طعلاّم – ALLAM” بني على يد فريق يضم أربعين باحثاً يحملون شهادات دكتوراه. ومدرب على بيانات عربية محلية ويعمل على بنية تحتية وطنية.

وفي عالم تهيمن عليه نماذج الذكاء الاصطناعي المدربة على بيانات بالإنجليزية والمستضافة على خوادم غربية. يعد هذا إعلاناً قوياً عن السيادة الرقمية. فالسعودية هنا لا تكتفي باستهلاك التكنولوجيا العالمية. بل تنتج أدواتها الخاصة التي تعكس أولوياتها.

هذا التوجه يتماشى مع “رؤية السعودية 2030″، التي تضع الابتكار الرقمي ركيزةً رئيسيةً للتنويع الاقتصادي والتحول إلى مركز عالمي للتقنية. بإطلاق “هيوماين تشات” تعلن المملكة عن عدم اعتمادها على الآخرين في مستقبل الذكاء الاصطناعي، بل تصنعه محلياً.

 

هيوماين تشات .. ذكاء اصطناعي عربي

الميزة الأبرز في “هيوماين تشات” ليست فقط أنه يتحدث العربية. بل أنه يفهمها بكل عمقها وتنوعها. هذا ما أكده طارق أمين لـ”الشرق الأوسط”، متسائلاً:” لماذا لا ننشئ اتحاداً لتطوير نموذج ذكاء اصطناعي يعكس ثقافتنا وقيمنا؟”. فعلى عكس النماذج العالمية التي تتعثر مع اللهجات أو التفاصيل الثقافية، بُني “هيومن تشات” منذ البداية ليعالج العربية الفصحى والحديثة ومجموعة واسعة من اللهجات السعودية والمصرية والشامية وغيرها. بل يمكنه أيضاً التبديل بسلاسة بين العربية والإنجليزية في نفس المحادثة، وهو أمر شائع جداً بين المستخدمين في المنطقة.

لكن الأمر لا يقتصر على اللغة فقط؛ فالنموذج مُصمم أيضاً ليتماشى مع القيم الإسلامية والموروث الثقافي، مع وجود ضوابط تضمن عدم تجاوز الحساسيات الثقافية. هذا لا يعني الرقابة فحسب، بل أن الذكاء الاصطناعي يتحدث مع المستخدمين بطرق تنسجم مع واقعهم وتجاربهم. وبالنسبة إلى ملايين المستخدمين الذين لطالما شعروا بأن الأدوات الرقمية صُممت في أماكن أخرى ولأشخاص آخرين، فإن هذا التوافق الثقافي واللغوي ليس مجرد إضافة بل إنه تمكين حقيقي.

 

مقاربة مختلفة

بينما ينشغل العالم بالجدل حول أخلاقيات الذكاء الاصطناعي، من التحيز إلى الأخبار المضللة، يأتي “هيوماين تشات” بمقاربة مختلفة. فهو يُدخل إطاراً أخلاقياً محلياً في تصميمه، مستلهماً من القيم الإسلامية والمعايير الاجتماعية للمنطقة. الأمر يثير سؤالاً مهماً: مَن يضع معايير الأخلاق في الذكاء الاصطناعي؟ هل هو وادي السيليكون وحده؟ أم أن لكل منطقة الحق في تشكيل نماذجها بما يتماشى مع هويتها وقيمها؟ يبدو أن “هيوماين تشات” يقدّم مثالاً عملياً للإجابة الثانية.

 

نحو بناء منظومة ابتكار

إضافة إلى ما سبق من إنجاز تقني في هذه القصة يظهر الجانب الأهم، كما قال طارق أمين، وهو رأس المال البشري. فخلف “هيوماين تشات” فريق بحثي سعودي كبير، يعمل على بيانات محلية، ويطور بنية تحتية متقدمة. هذا لا يمثل مشروعاً منفرداً فحسب، بل هو نواة لمنظومة بحث وابتكار محلية. عندما يعمل العشرات من الباحثين على بناء نموذج لغوي ضخم باللغة العربية، فهم لا يصنعون تطبيقاً واحداً فقط، بل يؤسسون لخبرات وموارد يمكن استخدامها عبر مجالات متعددة، من التعليم إلى الصحة، ومن الخدمات الحكومية إلى الإعلام.

 

ماذا يعني للمستخدمين؟

من منظور المستخدم، قيمة “هيوماين تشات” واضحة: مساعد افتراضي يفهمه بحق ويتحدث بلهجاته ويبدل بينها بطلاقة بل يحترم قيمه وموروثه. إنه يتعامل مع العربية بقدرة تفوق النماذج العالمية، كما يضمن أن بياناته تُخزّن محلياً، مما يعزز الثقة والأمان. هذه المزايا تجعل التطبيق أكثر من مجرد أداة ترفيهية؛ بل أداة يمكن أن تتكامل مع التعليم، والأعمال، والحياة اليومية للملايين.

 

دلالات عالمية

رغم أن “هيوماين تشات” موجه أساساً إلى العالم العربي، فإن دلالاته أوسع، فهو يثبت أن النماذج المحلية ممكنة وفعالة. تماماً كما طوَّر السعوديون نموذجاً يتماشى مع العربية والإسلام، قد نرى قريباً نماذج أولى لأفريقيا أو جنوب آسيا، أو أميركا اللاتينية، مصمَّمة لتعكس لغاتها وقيمها الخاصة. بهذا المعنى، قد تكون السعودية لا تطوِّر فقط “ذكاءً اصطناعياً عربياً”، بل تفتح الباب أمام نموذج عالمي جديد. الذكاء الاصطناعي السيادي الذي يُصمَّم محلياً ويخدم مجتمعه أولاً.

 

هيوماين تشات ..أكثر من مجرد تطبيق

للوهلة الأولى، قد يبدو “هيوماين تشات” مجرد تطبيق جديد في عالم مزدحم بالروبوتات الذكية. لكن عند التمعن، يتضح أنه إعلان نيّات. إعلان عن السيادة والثقافة والمنافسة، وعن مستقبل الذكاء الاصطناعي. إنه يعكس طموح السعودية إلى أن تكون ليست فقط مستخدماً للتقنية، بل أن تصبح صانعاً لها وفق معاييرها الخاصة. إنه يعطي الناطقين بالعربية أداة تتحدث بلغتهم وتفهم ثقافتهم. وهو يبعث برسالة إلى العالم مفادها أن الثورة التكنولوجية لن تُرسم فقط في وادي السليكون، بل ستُكتب أيضاً في الرياض وغيرها من عواصم المنطقة. فمع بدء انتشار “هيومن تشات”، يجب ألا نراقب فقط أعداد مستخدميه، بل كيف سيغيِّر النقاش العالمي حول: لمن يُصمَّم الذكاء الاصطناعي؟ ومَن يحدد هويته؟

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى