
أحرف مبعثرة بين أروقة متاهة الأيام، بين صفحات دفتر الأشجان ظلالها ترتسم، بين أوراق بيضاء متناثرة يخط رسمها. تحاول أمنياتي في ربيع وحدتي، في ثواني تيهاني بصيف الفراق، قبل مشهد يؤدى كل مساء بين الشمس وابحر فحواه العناق، تحاول جمعها بخريف الوداع، بشتاء الرحيل، آخر المطاف تنتظم في سلسلة تكبل قدماي.
أعثر في أول خطوة، أنهض مجددا، أضمد جراحي، أحث الخطى نحو شاطئي الذي لا أزال أحفر تفاصيله في ذاكرتي، أبصر قارب هروبي بمكانه المعتاد يقبع، أنفاسي بمعية خطواتي تتسارع، أرتمي عند عتباته ألامس حبات الرمل المبتلة وأكرر ذات العبارة:” سأرحل، سأهاجر، سأتحرر من سجن أحزاني”. تحررت لبضع ثواني فقط، لثواني متلاحقة استنشقت هواء الحرية وشممت ريح الجنة المتوهمة، ما فتئت فعل ذلك حتى عادت الدقائق لتسجنني ومهجتي بتهمة القتل العمدي، اعترفت بجريمتي، لقد قتلت بسمة أم وأشعلت نار شوقها وانسحبت في صمت، ركبت قارب النجاة كما أسماه صديقي، ركبناه بالفعل وسرى بنا والليل حالك بغيوم تشابكت معلنة عن عاصفة وشيكة، هبت عاصفة هوجاء عبثت بنا بين حروف اللقاء والوداع، صمدنا في وجهها حتى فلق الإصباح لنبلغ شاطئ المنى. نجونا من كهف الأشجان لكن علقنا في دوامة الضياع، في أرض بعثرتنا معالمها بين الحانة والكورنيش وغابات النسيان، ظللت على تلك الحال لثلاثة عشر شهرا، مشتت في دقائق تسرق مني بين أشجار تحتفظ بحكايات العشق، وهذيان في ليلة صاخبة تعج بالفارين من الحياة، تيهان تجتمع فيه لوحة الغروب ووطن الذكريات ليكتبا رسائل الشوق. رفرفت حمائم الشفق بعيدا عن نافذة زنزانتي، حملت رسائل الشوق لتوصلها لمحبوبتي، صاغت الكلمات فيها حنين سنواتي السبع، أماه بسجن غربتي أبعثر عبارات الحزن وخطواتي لعلها تعيدني لحضنك، تتسرب الكلمات من عيني بأطلال بلادي، أتحسس خريطتها لأشم ريح ثراها العبق، لعل الأيام تحمل لقاء أتمناه وأنا عالق في الغربة بلا هوية. هويتي أنت أماه، وطني أنت، أرضي وسمائي أنت أماه. شوقا لك أحمله ولقاءً بعد الغياب أرجوه. هذا ما حملته رسائل الشوق باختصار. موقن أنا أماه بأنك لن تقرئي أحرفها، فلك بين القبور مسكن ولي بينها أحباء، وقفت على أعتابها بشتاء الفراق ودموع الأسى تنساب على خدي كبركان نفث حممه بعد الخمود. فارقتني دون رجعة ورحلت أنا دون توديع وظلت ذكراك تعاتبني:” يا ليتك لم تهاجر. اكتفيت أنا بأحرف مبعثرة من ذا يجمع شتاتها غير الدمع المنهمر”.
بقلم: إبراهيم حلاسة (الجزائر)