
في عهد الاستعمار الفرنسي، انقسمت مدينة البليدة إلى قسمين: الحي العربي الإسلامي وفيه سوق جميل، والحي الفرنسي الكبير بفيلاته الجميلة المحاطة بالورود والزهور. وبعد الاستقلال، نقلت الحكومة الجزائرية بعض جيران سوق الجميل إلى منطقة سكنية يسكنها جنود فرنسيون حصريا. وقد اتخذ هذا القرار تقديرا لمشاركتهم في الثورة الجزائرية، وكان معظمهم من المجاهدين والشهداء. كان ولا يزال هناك احتراما متبادلا بين الجيران لا نظير له، حتى مع قدوم الجيل الجديد لن تغيرت تلك الصورة الرائعة.
لا أعرف لماذا تبادرت إلى ذهني هذا الصباح ذكرى إحدى الجارات التي استحضرتها عفويا ودون التفكير فيها مسبقا. إنها امرأة تدعى (أم سعد)، بحيث كان لقصّتها تأثيرا عميقا عليّ رغم مرور كل هذه السنوات الطويلة ولا أستطيع البثة نسيانها. لقد جاءت (أم سعد) من عائلة محافظة وبسيطة ومتواضعة للغاية، وكانت نادرا ما تخرج من بيتها للضرورة ذات يوم، أحببت أن أزورها أولاً مع صديقاتي من الحي القديم لأقدّم لها تهاني وتمنياتي لها بالعيد المباركـ فقد رحبت بنا بابتسامة مشرقة تترجم ما في سريرتها مما تُكنُّه لنا من محبة وودّ وجوار، وقدمت لنا الكعك وبعض الحلويات، ثمّ أثنت علينا كثيرا وعلى ملابسنا الجميلة وتسريحات شعرنا، مما جعلتنا نشعر وكأننا أميرات.
كانت (أم سعد) قد تزوّجت في السادسة عشرة من عمرها، ولديها ولد وأربع بنات، ولكنها مع ذلك لم تكن سعيدة في حياتها الزوجية بحيث أصبح الطلاق حتميا. وعندما قرر زوجها أن يأخذ الأطفال منها بعد أن أنجبت للتو طفلها الأخير، سمع الجيران صرخات (أم سعد) المفجعة في فلذة أكبادها خاصة عندما انتزع طفلها من ذراعيها، حينها أخذت أمه الطفل وألقته بلا رحمة أمام الباب ليأخذه الأب، لكن الأب رفضها معها في خصام شديد وملاسنات كلامية كبيرة وصراع عنيف رغم توسلات (أم سعد) فما كان الجيران شاهدين هذا المشهد المفجع من خلال النوافذ، بل وبكوا أيضا مع والدتي عندما روت لي هذه القصة. المؤلمة التي لا تسر النظرين وتدمي القلوب.
بعد ذلك، منع الزوج الأبناء من رؤية والدتهم (أم سعد) رغم القرب الجغرافي بينهم، إلا أنّ الصبي وجد طريقة لزيارتها سراً، وقامت (أم سعد) بتربية ابنتها بمفردها ومساعدة أعمامها. وفي وقت لاحق، قام إخوتها بتزويجها لرجل يعيش معهم، لكن بعد وفاة زوجها قامت بتربية ابنها مع أختها. كما ظلت كانت متعزلة ومنزوية في الحفلات والأعراس، مفضلة البقاء في الظل دون مخالطة النساء.؟
وفي اليوم الذي تزوج فيه الابن وأحضر عروسه الجديدة إلى منزل والدته لتباركها، بينما شكلت زغاريد الجيران لحظة لا تنسى. ومشهدا من الفرحة طالما إنتظرتها (أم سعد) بفارغ الصبر. ورغم صغر سني في ذلك الوقت، إلا أن هذا المشهد المؤثر ظل محفورا في ذاكرتي وكأنه بالمس القريب.
كبرت بنات (أم سعد) وطردتهن زوجة أبيهن من منزل والدهن، حينها لجأؤوا إلى أمهم، لكن العلاقة بينها وبين بناتها كانت باردة لدرجة أنّ إحدى الفتيات أعربت لوالدتها عن شعورها بالرغبة في التحدث إلى خياطتها أكثر من والدتها.
توفيت (أم سعد) دون أن تتمكّن من تحقيق حلمها في رؤية البحر أو السفر أو الحج، تاركة وراءها حياة بلا سعادة. الله يرحمها
بقلم: زهرة الياسمين (البليدة)