زوايـا وأقـلام

نوستالجيا… بنكهة “غادة”

حين كنت طفلة صغيرة، كان في وسعي أن أفهم لغة الريح، وأقرأ العلامات المحفورة في الحقول التي لم يُحصد إلّا نصفها أو في المطر المتساقط من أشجار الزيتون أو من أغصان شجرة التين المعمرة وسط باحة بيت جدتي في الضيعة، وأن أشدو مع المياه المنسابة من الأفازير المعلّقة؛ وكنتُ أفكّرُ أيضاً في أنّي لو بدلتُ جهداً لتمكّنتُ، يوماً ما، من فكّ شفيرة لغة الحيوانات أو ربما رؤية الله بأمِّ عيني…

في إحدى المرّات، وبينما كنتُ أسير برفقة جدتي نحو بستان الخضروات الصغير، قرب البئر المفتوح شدقه ملء السماء، شاهدت أحد الجراء الصغيرة التي لم يفتح عينه على الحياة، وكان لكلبة ربطها جدّي كحارسة على مدخل القطعة. كان جرواً رمادي اللون وقد نفق من شدة الجوع الناتج عن جفاف ضرع أمه ووفرة أفواه إخوته الشّرهة. وقفت أمامه وتأملته جيداً وأصرّيت على جدتي أن تدعو لأجله بالجنة، وكان ذلك الهمس والطلب الطفولي أثار هلع جدتي..

– يا صغيرتي.. ألم أقل لكِ من قبل أنّ الجنة مكان محدد وصغير ومحفوظ لنخبة مختارة قليلة العدد.. أمّا الحيوانات فلا مكان لها فيها..

هكذا أوضحت لي جدتي وهي تمسك بيدها فأساً صغيراً، تنقش به الأرض المبلولة وتنزع الحشائش على جنبات وريقات الطماطم التي بدأت تُزهر.. سألتها بعفوية المهتم، وعيني مشتتة بين جثة الجرو النافق وحركات جسمها تتمايل وتشتغل على نسق واحد:

– ومنْ آخر.. جدتي… لا يدخل الجنة غيرُ الحيوانات!!؟

– الخاطئون.. الأشرار اللذين يُهملون شؤون ديننا ويحيدون عن جادة الحق.. والذين ينتحرون، ولن يحظى هؤلاء بصلاة الجنازة عليهم…

“كذلك هو شأن الجرو الصغير، على ما يبدو، فقد أخطأ حين ابتعد عن أمه”…

هكذا جال في خاطري وخمنت لحظتها…عندما لاحظتْ انحانئتي قرب الجثة أضافت وهي تقف على رأسي، ويديها المتسختين على خصرها، وقالت، بلهجة الآمر:

– لا تلمسيه.. فهو يحتوي على أمراض وحشرات وطفيليات قد تؤذيكِ.. فالكلب الذي يلقى مصرعه يرمى في النار تفادياً للأمراض… يا غادة.. اسمعي كلامي..

التفتت نحوها وعين مفتوحة وأخرى غشيتها الشمس وملامح وجهي استوطنها الخوف والدهشة:

– وهل سنتركه هنا..!؟

– في المساء.. سيأتي جدكِ ويرميه في النار..

في ذاك العصر، انسللت من المنزل ونقلت جثّة الحيوان النافق من ذلك المكان النتن، ولم أعثر على أيّ قفازات، وتذكرت نصيحة خالي الذي يّدرس الطب: إن غسل اليدين وباقي الجسم بالماء والصابون كفيل بإزالة كل أنواع الفيروسات والطفيليات، وأن الوقاية خير من العلاج، وأنّ علينا دفن الحيوانات النافقة في القرية، تفادياً للأمراض، وللروائح الكريهة..

لأقرّر دفنه، في غفلة جدتي..

حين لمست تلك الجثة التي فارقت الحياة، ارتعشت كأن شيئاً ما انتقل من تلك الجثة إلى جسدي، ثم حفرت حفرة بيدي، وثبّتت شاهدَ قبر صنعته بمسطرة زجاجية أخذتها خلسة من محفظتي الوردية، وتوجهت بالدعاء لله… رويداً رويداً، أضحى ذلك العمل لعبةً من لُعبي المفضلة، وجنازةً راقصة. ونظمت شعائرَ لدفن الذباب الذي اصطاده كل صيف وللنحل النافق الذي أجده قرب البئر، وللأزهار الذابلة، والفراشات ذات الأجنحة المتكسّرة، واللُعب المتضررة التي يتعذر إصلاحها، وخاصة “باربيات” ذوات الشعر الأصفر المتجعد، وغير المرغوب في دخولها للجنة…

(مقتطف من مسودة “رواية”: غادة.. امرأة من زمن الشرق المتسخ..)

بقلم: غادة سعيد (بورتو – البرتغال)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى