
احتفت مكتبة مركز التوثيق الاقتصادي والاجتماعي في وهران (C.D.E.S)منذ أيام، بالمولود الأدبي الجديد الموسوم بـ Laps de temps “الفاصل الزمني”، لصاحبه الصحفي الكاتب “خالد بوداوي”، وسط حضور مكثف لأصدقائه ومثقفي الباهية.
جلسة البيع بالتوقيع لكتاب “الفاصل الزمني”، عرفت نقاشا عائليا مفعما بمشاعر حب الحياة والاندفاع نحو كيفية تخطي العراقيل اليومية التي من شأنها التأثير على الفرد والانحراف به إلى اليأس والاكتئاب والوحدة…، من خلال محاولة الاستفادة من التجربة الحياتية لـ “خالد بوداوي”، الذي نجح في تخطي مرضه والانسجام كليا مع مناحي الحياة والتشبث برمقها في كل الحالات.
من محارب للسرطان إلى مروض له
دعا “خالد” المصاب بمرض السرطان إلى ضرورة التعامل مع المرض على أنه صديق عن طريق التعود على وجوده ومعايشته اليومية له ولتقلباته، معترفا أنه في كتابه “الفاصل الزمني”، يعرض تجربته الحياتية في 136 صفحة، التي تلخص 42195 كيلومتر للعيش، بعدما كان “السرطان” يهدد حياته بالتوقف، تحول إلى مصدر إلهام وتشجيع له لمقاومته وتحديه، بعدما رأى فيه العدو اللدود، لينتقل من مرحلة المقاومة والتفكير السلبي إلى جبهة التفهم والتقبل للتعايش معه في جسد واحد وفق ضوابط يحددها حكم خارجي حتى لا تنقلب اللعبة، بإشراف طبيب مختص يتابع الحالة النفسية والجسدية له، لتبدأ رحلة “التعايش” بين الطرفين.
“خالد” أكد أن المرض لم يعد يخيفه ولا يهدده، بل كسب رهانا آخر وحول تحديه إلى صداقة حقيقية، مشيرا إلى أن نجاح الصداقة هي التحدي الحقيقي. كثير من الحضور من الأوفياء لمؤلفاته، حيث تعتبر هذه الرواية ثالث تأليف له، بعدما أصدر سابقا كتابين، أحدهما بعنوان “العيش في أنا المزدوج”، بيد أن مؤلفه الأخير يتناول مسيرته العلاجية لداء السرطان الذي احتل جسده بـ5 أنواع، يرى فيها “خالد” أنها تتعايش، وهي النموذج الذي يجب على الفرد أن يكون عليها في حياته بتعامله مع مشاكله، مؤكدا أن ظهور المشكلة في حياة الفرد هي بداية لمرحلة جديدة من الحياة.
تشخيص طبي خاطئ غيَّر مجرى حياته وبالحديث عن أسباب إصابته بمرض السرطان، كشف “خالد بوداوي” أن إصابته بالسرطان كان نتيجة خطأ طبي بإحدى المصحات الاستشفائية في 2010. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل تعداه إلى مصارحة الطبيب له بأن أيامه بقت معدودات، فقد أخبره في عام 2012، أنه لن يعيش أكثر من 4 أشهر. تصريح الطبيب بقدر ما فاجأه وأدهشه، فقد دفعه إلى التوجه نحو مصحات أخرى من أجل معرفة أدق بحالته المرضية، ليحط الرحال بفرنسا، حيث مازال يتابع العلاج هناك إلى اليوم بمساعدات معارفه، لانعدام مصدر دخل قار، بعدما غادر مهنة الصحافة إثر مرضه.
“خالد” لم يوقفه لا انعدام المال ولا تصريح الطبيب، بل انطلق في رحلة موازية، من أجل إثبات وجوده وتأكيد قوته على التحمل لاسيما وأنه أب يعيل زوجة وابنين هما “خليفة وشيماء”، فبدأ يبحث ويناقش مقربيه ويستلهم أساليب الكفاح في الحياة، ويثبت للطبيب أن الأعمار بيد الله وحده، وأن المرض ليس سوى عائقا للنفس الضعيفة والمتخاذلة أمام التحديات، فالكثير رحلوا فجأة وهم في كامل قوتهم الجسدية وكم من أشخاص عادوا للحياة بكل اندفاع من على فراش الموت.
يواصل “خالد” للسنة الـ16 في معايشته لمرض السرطان، الذي أصبح يراه صديقا حقيقيا كما قال، حيث أوضح أنه أصبح يستلهم من تفاعله النفسي مع هذا الداء كيف يمكن أن يبدع ويخلق مسارا جديدا يضاف إلى نشاطاته اليومية من أجل الشعور بلذة الحياة، لأن اللذة في تحقيق المكسب هو تحدي الشخص لنفسه وللإحباط الذي يخيم عليه ويحاول تحطيمه
من الشغف إلى التأليف… رحلة المتعة وترجمة الشغف
واصل “خالد بوداوي” سرد رحلته الاستشفائية للحضور وسط سكون رهيب، بطريقة سلسة وهادئة، جعلتهم يركزون ويكتفون بهز رؤوسهم والإيماء بتقبلهم لما يقول واستيعابهم للشحنات الإيجابية التي كانت تصلهم بكل انسيابية، حيث أكد “خالد” أن تعلقه بعائلته الصغيرة وإحاطته بأصدقائه وأهله، والاهتمام النفسي من طرف فريقه الطبي، دفعه إلى البحث عن سبيل لتفريغ تلك الأفكار والمشاعر التي اكتنزت بداخله، حتى يشعر به غيره ويساهم في بث القليل من الأمل لدى الأشخاص الذين سقطوا ضحية لليأس والقنوط والمرض، خاصة مرضى السرطان، الذين يرونه عدوا لدودا.
فاتجه نحو القلم وبدأ يخط أولى كتاباته، بعد انقطاع لسنوات عقب مغادرته لعالم الصحافة، فكان يكتب وهو متخوف من ردود الذين سيقرؤون كتابه، غير أن الرد كان كبيرا ومدهشا، بعدما تلقى ترحيبا وتشجيعا كبيرين من كل معارفه، بل دعوه إلى الانخراط في عالم الكتابة، لاسيما وأنه أكد أن مرحلة الكتابة جعلته يشعر بشعور جديد في إثبات وجوده وفعاليته في هذا الجانب من الحياة. فقد جاءت روايته الأولى لتحكي قصة بين ضفتي الجزائر وفرنسا، في تصوير متداخل لثقافتين وهويتين مختلفتين. بينما اتجه في كتابه الثاني إلى الغوص في الهوية وإشكالية الاندماج في مجتمع يصعب فيه تقبل مجهول النسب (الفاقد لهوية والده)، وكيف يتحول الضحية إلى جلاد ثم إلى “نبيل” قبل أن تنقلب عليه الدنيا وينتقم القدر لضحاياه.
رغم أنه تحدى ذاته ورفع القلم إلا أنه فضل أن يرافقها بتحد آخر وهو الكتابة باللغة الفرنسية، حتى يثبت قدرته على تخطي أي تحد، وقد نجح في ذلك، ليؤكد أن الفرد وحده قادر على تحقيق شغفه بتحدي نفسه، ليحقق أحلامه مهما كان نوعها، لأن المشاكل الخارجية يمكن أن تحل بمساعدة الغير، لكن المشاكل مع الجسد والنفس تعتمد على الشخص في حد ذاته، لأن الإرادة يجب ألا تتراجع والاستسلام ممنوع مهما كانت الظروف والمآسي، فجمالية الحياة في تحقيق ما أوهمتنا بالفشل فيه، من رفع القلم إلى وضع القدم…
الماراطون علاج آخر
وعن دخوله عالم الجري، فقد أورد “خالد بوداوي” أن الماراطون يعتبر نجاحا علاجيا من نوع آخر، فقد أصبح مخاطرة يقدم عليها في كل المناسبات الوطنية والدولة، يرى “خالد” أن مشاركته في الماراطون مهما كانت مسافته، تجعله يفكر في جميع مرضى السرطان حول العالم، وشجاعتهم ومعركتهم التي لا نهاية لها، معتبرا نفسه ناجيا من هذا المرض، فالانتقال إلى هذا التحدي حسبه، في الصميم لأنه وسيلة لجعلهم يعرفون أنهم ليسوا وحدهم، وأن كل جهد، وكل انتصار، مهما كان صغيرًا، هو ضوء في كفاحهم اليومي.. ويستمر الكاتب “خالد” سرده لقصته مع مرض السرطان وكيف عايشه واختاره صديقا له عبر مسار “الماراطون”.
حيث يعود بذاكرته إلى 2018 ليتكلم عن ماراطون باريس أول مشاركة له في هذا النوع من السباقات، الذي يعتبر تحديا قاسيا له، فقد كان يركز على حذائه ورذاذ المطر يبلله، لينطلق في تحدي نفسه وضرورة تغلبه على تخوفه من إمكانية الفشل، فهو يعتبره مرحلة هامة لأنه جعله يتخذ قرار الاندفاع ودخول مرحلة التحدي الحقيقي، باستيعاب الفكرة وتقبلها وليس البحث عن الحلول، خاصة وأنه لم يفكر في ممارسة الجري من أجل كسب المراتب الأولى أو منافسة زملائه أو كسب جسد رشيق، بقدر ما كان سعيه للنجاح في وضع قدميه على الأرض والحفاظ على تناوبهما في صنع خطواته إلى الأما، وقد روى للحضور مسيرته مع تمدد المسافات من الصفر 0، إلى 10، 21… ليصل 30 كيلومتر ويتجاوزها، قاصا تلك الصور والأفكار التي ترافقه خلال جريه تلك المسافات وكيف تمر مسيرة الحياة في ذهنه، وكأنها سنوات رغم أنها لا تتعدى لحظات، ورغم الشجاعة التي يتحلى بها إلا أن “خالد” كشف أن جريه كان تحديا لذلك الخوف الذي كان يتسلل إلى جوفه، ليستمر في الجري وكلما أضاف مترا كلما قضى على جزء من الخوف الذي كان يهدده ويتحداه، ويواصل حتى وصل إلى درجة أنه لم يعد للخوف مكان في ذاته، فقد أصبح الجري نشوة يعيشها والماراطون لذة يستمتع بها من الإرهاق إلى التشافي.
وفي ختام اللقاء، أجمع الحضور على أن المجتمع اليوم بحاجة إلى هذا النوع من جلسات التشافي، التي تحمل دروسا من الحياة يسردها من تحداها ونجح في تخطي مشاكله، حيث قالت إحداهن أن “خالد” أصبح رمز النجاح ورفع التحدي، فقد أصبح يرفض تسمية المرض بالعدو، بل ألقى بمسؤولية ترويضه وتحويله إلى صديق على عاتق المصاب. لأن المرض يعيش بالجسد، هذا الاخير الذي يحمل الاثنين ولا يمكن فصلهما عن بعضهما، مما يسير بنا إلى فلسفة أخرى في الحياة وهي تقبل التعايش مع الآخر واحترام أفكار بعضنا، لأن الأرض تسع الجميع. في حين ذكر آخر، أن ما يقوم به “خالد” في مكافحته ضد هذا المرض الذي أصبح يمس نسبة كبيرة من البشر، إلى أنه يجب أن نغير من خوفنا إلى رفع التحدي ومواجهة المرض بأكثر فاعلية وقدرة على تحمل الألم، لأن ذلك الألم هو المحفز لكسب الرهان وتحقيق الفوز على المرض وكل مشاكل الحياة. وقال آخر “إنه من المفروض أن يعرض كتاب “فاصل زمني” للكاتب خالد بوداوي في الصيدليات وأن ينصح به الأطباء لمرضاهم”.
كما تمنى الحضور أن تنظم جلسات لبث الأمل وزرع المشاعر الإيجابية من أجل التحفيز على الإقبال على الحياة بكل ما فيها من إيجابيات وسلبيات.
يذكر أن جلسة البيع بالتوقيع شهدت نفاد كل الكمية المتوفرة، وقد كانت جلسة تحفيزية على الإقبال على الحياة أكثر منها جلسة لمناقشة ظروف الكتابة، فقد تحول من مريض يصارع من أجل العلاج إلى مروض للسرطان وملهم للحياة والنجاح في كسب التحديات. كما تجدر الإشارة إلى أن الجلسة حضرها الكثير من محبيه وأصدقائه على غرار الروائي والباحث “منصور قديدير” والمختص في علم الاجتماع الدكتور “محمد مبتول”، والباحث الأنثروبولوجي سعيد هادف والسيدة “سليمة عيدوني” عن مكتب دار الشعر في وهران وغيرهم، إضافة إلى عائلته الصغيرة.
أعدته: ميمي قلان