زوايـا وأقـلام

جـارتـنـا… خـالـتـي خـضـراء

لا أذكر بالضبط لا تاريخ ميلاد ولا وفاة خالتي خضراء، ولكن كل ما أعرفه عنها لا يزال راسخا في ذاكرتي مثل روسومات الإنسان البدائي في الكهوف والمغارات. لقد أحببت إحياء ذكراها اليوم تزامنا مع اليوم الوطني للشهيد، لأنها كانت بحق إمرأة عزيزة النفس وكريمة الطبع وحكيمة العقل. لم تكن يوما أما لابنائها فحسب بل لكل أولاد المدينة والجميع كان يُكنُّ لها كل الاحترام والتقدير.

في بعض الأحيان كانت خاتي خضراء تخرج دون ارتداء الحايك آنذاك، ولم يكن أحدا من يجرؤ التقليل من شأنها واحترامها، وقد كُنتث في قرارة نفسي قد سمّيتها بالخنساء كونها أمّا لشهيدين سقطا في ميدان الشرف في وقت واحد مع شهداء آخرين. ومن خلال شهادة حية بعث بها القائد العسكري في صفوف الجيش الفرنسي الإستعماري وقتئذ، أخبرها بأن ابنيها قد دواخا العساكر الفرنسيين قبل استشهادهما، وذهبت مُسرعة نحو الساحة حيث ألقى الجنود الفرنسيين بجثتهما مع شهداء آخرين، بحيث كان الهدف من وراء ذلك، إرهاب الباقين واستعراض قوتهم العسكرية وبطشهم الإستعماري. لكن المستعمر الفرنسي لم يتعلم بأنه بفعلته تلك لن يزيد الجزائريين إلا إصرارًا وعزيمة للانتقام لهم والدفاع عن وطنهم وتقديم المزيد من أبنائهم كشهداء. يومها، وقفت خالتي خضراء تنظر بعيون حزينة وقلب يتقطع ألمًا وحزُنًا على ولديها لكن دون الاقتراب منهما، فيما كان ذلك الضابط العسكري ينتظر ردّة فعلها مثل كل المّهات الأخريات بأ تبكي وتصرخ وتلطم وجهها لفقدانها ولدين و النيل منهما، لكنها لم تفعل ذلك بل أطلقت زغاريد من صميمها وبكل قوتها إيمانًا منها بأنّ الشُّهداء جزاؤهم الجنّة، ممّا أشعلت الشّجاعة والقُوّة في نفوس الرّجال المُحاصرين من طرف العساكر بأسلحتهم، فتقدّموا ممّا دفع بالمُحتلّين للتّراجع، وأخذ الأهالي الشهداء وأكرموهم بالصلاة عليهم ودفنهم رغم أنف الجند الغاشم.

نالت الجزائر الإستقلال الذي حمل معه البهجة والفرحة والطمأنينة والشعور يطعم الحريّة بعد أن ضح الشعب الجزائري بالنّس والنّفيس. وكانت فترة ما بعد الاستقلال مرحلة حرجة لكل الجزائريين، خاصة أن يتأقلم الجزائريون بعد قرن وثلاثين سنة من الزمن عانوا خلالها كل ويلات الظلم والجهل والفقر والتشريد والإعتقال والتعذيب والموت البطيء، وبشكل خاص مع التغير التدريجي في الفكر والسلوك والذهنيات، خاصة وأنّ الكثير من هؤلاء الجزائريين كانوا حديثي العهد بالزواج ولم يكن من السهل أن يتجاوزوا هذه المرحلة بسلام. ولكن من نعم الله عليهم كان لوجود الجدّات وحضور الأُمّهات مثل خالتي خضراء الدّور الكبير والتّأثير الإيجابي لتهدئة النفوس وإقرار الاستقرار في الكثير من البيوت الجزائرية، رغم أنّ المُهمّة كانت صعبة للغاية بالنسبة للأسر الجزائرية عشيّة الإستقلال.

أكّدت إحدى الشهادات لأحدى الزوجات بعد الإستقلال وما قصته لنا عن خالتي خضراء في وقفة معها، أنّها كانت صغيرة ولا خبرة لها حين مرض أولادها، بحيثُ رُزقت بمولود جميل، ولمّا بلغ الشهر السّابع مرض مرضا شديدًا، قيل لها حينها بأنّ الحليب المستورد كان فاسدًا ممّا أدى لوفاة أكثر من مليون ونصف رضيع، وحين أبلغوها في المستشفى بأنّ حالة ابنها أصبحت ميؤوسًا منها، رجعت به إلى البيت ذمذهولة وكئيبة لا تعرف كيف تتصرف مع هذا القدر الذي طنت أن كان محتُومًا، علمًا أنّ زوجها وحماتها كانا غائبين. ولمّا سمعت خالتي خضراء بالخبر المُؤلم، هرعت مُسرعةً إلى تلك الأم الحائرة، وجدت الباب مفتوحًا، دخلت وحملت الطّفل وهو يحتضر، غيّرت لهُ ملابسه، احتضنته وشرعت في سقايته بالماء قطرة قطرة حتى توقّف عن ابتلاعه، في حين ظلت أمه مُتسمّرةً في مكانها ووجهها واجمًا، لم تتفوّه بكلمة واحدة إلى أن وافته المنيّة فقامت خالتي خضراء بالواجب إلى أن حضر الزوج ووالدته. هذا الموقف الشجاع والحكيم  وغيرها من المواقف النبيلة التي عُرفت بها خالتي خضراء ليس من السهل ذكرها جميعا والتطرق إليها.

ما أعظم الأمهات وما أجلّ مواقفهنّ وأجمل ذكراهنّ، فبعض الناس لا يموتون بمواقفهم الجليلة، بل هناك ذكريات لا تفارقنا أ[دا ونحملها معنا كعبق الروائح الزكية وتظلُّ حيّة في أعماقنا إلى الأبد. نحنُ إذ نسترجع هذه الذّكريات من صُلب الذّاكرة ومن الزّمن الماضي الجميل فإنّنا في الوقت نفسه، نسترجعُ معها ومن خلالها الكثير من العاطفة والحنين. والطيبة والدفء الذي صرنا نفتقه اليوم في حياتنا ويا للاسف، خاصة بعد وفاة أمثال خاتي خضراء والأخريت من الامّهات والآباء.

رحم الله خالتي خضراء وكلّ المؤمنين والمؤمنات

بقلم: زهرة الياسمين (الجزائر)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى