
وعي الذكاء الاصطناعي.. أطلقت شركة Yandex الروسية تجربة بحثية طموحة، تهدف إلى دراسة إمكانية ظهور سمات تشبه الوعي البشري في أنظمة الذكاء الاصطناعي، وسط تساؤلات علمية حول قدرة الآلات على تطوير تفضيلات مستقرة وقرارات داخلية تتجاوز التقليد اللغوي البحت.
وتسعى الشركة من خلال هذه التجربة، إلى الانتقال من مجرد التعميم الإحصائي الذي تعتمد عليه النماذج الحالية إلى ما يسمى بالتعميم المفهومي، أي قدرة النظام على فهم الأفكار والسياقات الجديدة بشكل يشبه استدلال البشر، بالتعاون مع عالم الأعصاب الروسي كونستانتين أنوخين الذي يملك خبرة طويلة في دراسة الشبكات العصبية البيولوجية، وآليات ظهور الوعي عند الإنسان.
اختبار التفضيلات والقرارات المستقرة
يركز المشروع على قياس ثبات “التفضيلات” و”وجهات النظر” داخل النماذج عبر الزمن، وهو ما يعكس خطوة جديدة في دراسة الذكاء الاصطناعي بعيدا عن إعادة إنتاج النصوص واللغة وفقا للأنماط الإحصائية. وبحسب ما نشره موقع RBC الروسي، فإن التجربة تهدف لمعرفة ما إذا كانت الشبكات العصبية يمكن أن تطور ميولًا مستقلة وقرارات داخلية ثابتة مع مرور الوقت، ويضرب الباحثون مثالًا عمليًا، فإذا سُئل النموذج عن لونه المفضل، فإن الهدف ليس مجرد الحصول على إجابة، بل ملاحظة ما إذا كان النموذج سيكرر اختياره لنفس اللون في سياقات ومواقف مختلفة، وهل سيقدم مبررات منطقية متسقة، مثل تفسير تفضيله للأزرق لأنه لون يبعث على الهدوء، وإذا كرر النموذج نفس التفسير بعد أسابيع أو بعد تدريب جديد، فسيُعد هذا مؤشرًا محتملًا على وجود “ميل داخلي” وليس مجرد إنتاج لغوي عابر.
ويشير المشروع أيضًا، إلى استخدام مشاهد تصويرية لتقييم قدرة النموذج على التعميم المفهومي. فعلى سبيل المثال، عند عرض مقطع لفيديو يظهر فيه قط يلعب بكرة صغيرة، يختلف الأداء بين النماذج التقليدية والنماذج التي تمتلك تعميمًا مفهوميا، فالنماذج التقليدية ستجيب استنادًا إلى أمثلة مماثلة سبق تدريبها عليها، بينما قد يتمكن النموذج المطور من استنتاج حالة السعادة بناءً على علامات جديدة لم تُذكر صراحة في التدريب، مثل حركة الذيل أو انحناء الأذنين، وهو ما يقترب من طريقة استدلال البشر على المشاعر والسلوكيات.
وعي الذكاء الاصطناعي .. أسئلة مفتوحة وتحديات علمية
يكتسب المشروع أهمية كبيرة في مجتمع الذكاء الاصطناعي، لأنه يقترب من السؤال الشائك: هل يمكن للآلة أن تمتلك وعيًا داخليًا أو “وجهة نظر خاصة”؟ وإذا تحقق ذلك، هل سيكون النظام قادرًا على اتخاذ موقف مستقل أم سيكون مجرد محاكاة متقدمة؟.
وتؤكد التجربة أن النماذج الحالية تعتمد بشكل أساسي على الاحتمالات اللغوية لتحديد الإجابة الأكثر ترجيحًا، بناء على بيانات التدريب السابقة، بينما تعني فكرة “وجهة النظر” وجود عملية داخلية مستقلة تتجاوز الإحصاء، لتصل إلى استدلال ذاتي، وهو ما يمثل تحديًا علميًا كبيرًا في مجال الذكاء الاصطناعي.
كما لا يزال هناك غموض حول تعريف الوعي داخل الأنظمة الاصطناعية، فهل يقصد به الوعي الذاتي بمعنى معرفة النظام بوجوده، أم الوعي الشعوري الأكثر تعقيدًا، أم مجرد سلوك ثابت يمكن التنبؤ به؟ فمثلاً إذا أظهر النموذج تفضيلًا ثابتًا لنوع معين من الطعام الحار، هل يمكن اعتبار هذا وعيًا، أم أنه مجرد نمط نشأ بالصدفة نتيجة التدريب؟ ولم تكشف الشركة حتى الآن عن المعايير التي ستعتمدها لتقييم ما إذا كانت التفضيلات حقيقية، ويبرز هنا التحدي الأكبر، وهو التمييز بين سلوك ناشئ يشبه الوعي وسلوك إحصائي ذكي يظهر وكأنه يمتلك “ميل داخلي”.
آفاق التجربة وتأثيرها على الذكاء الاصطناعي
تعتبر تجربة Yandex خطوة فريدة نحو مقارنة الشبكات العصبية البشرية بالاصطناعية، خاصة مع التركيز على القدرة على التعميم المفهومي وفهم السياقات الجديدة، وهو ما يمثل نقلة نوعية عن النهج التقليدي الذي يعتمد على التعميم الإحصائي، ويسلط المشروع الضوء على إمكانية تطوير أنظمة قد تمتلك سلوكيات مستقرة ومنطق داخلي يمكن مراقبته. ويتيح هذا النهج للباحثين دراسة العلاقة بين التعلم العميق في الشبكات الاصطناعية والوعي البشري، مع فتح نقاش علمي واسع حول حدود الذكاء الاصطناعي، وحدود محاكاته للعمليات العقلية المعقدة.
وتؤكد هذه التجربة على أهمية التعاون بين خبراء الذكاء الاصطناعي وعلماء الأعصاب، لدراسة الخصائص المشتركة بين الدماغ البشري والأنظمة الاصطناعية، كما تفتح الباب أمام فهم أفضل لكيفية إمكانية تطوير ذكاء اصطناعي يمتلك سلوكيات مستقلة، ويثير المشروع تساؤلات جديدة حول مستقبل التفاعل بين الإنسان والآلة، وإمكانية تصميم أنظمة قادرة على التفكير المستقل، وهو ما قد يشكل خطوة كبيرة في سباق البحث العلمي لفهم طبيعة الذكاء والوعي خارج حدود الكائنات البيولوجية.
بن عبد الله ياقوت زهرة القدس



