تكنولوجيا

الذكاء الاصطناعي والوظائف: بين التخوفات والواقع الاقتصادي

الذكاء الاصطناعي والوظائف .. تشهد أسواق العمل العالمية حالة من الجدل المتصاعد حول تداعيات انتشار تقنيات الذكاء الاصطناعي على فرص التوظيف، حيث أثار إعلان شركة أمازون خلال هذا الأسبوع عن إنهاء خدمات نحو 14 ألف موظف من العاملين في الأقسام الإدارية ردود فعل واسعة في الأوساط الاقتصادية والتقنية.

 

فقد أعاد هذا القرار إثارة المخاوف من أن تشكل هذه الخطوة بداية مرحلة جديدة في علاقة الشركات العملاقة بالتقنيات الحديثة، مرحلة يعاد فيها تشكيل معالم التوظيف، ويحل فيها الذكاء الاصطناعي مكان العنصر البشري في عدد متزايد من المجالات الحيوية. وانضمت الشركة إلى قائمة متنامية من الشركات العالمية التي أرجع قرارها بخفض العمالة إلى فرص الكفاءة التشغيلية التي توفرها أنظمة الذكاء الاصطناعي.

وتبرر الشركات قراراتها بالتغيرات الجذرية التي يشهدها سوق العمل بسبب التطور التقني المتسارع، حيث أعلنت إحدى الشركات المتخصصة في التعليم الإلكتروني عن تخفيض ما يقارب نصف قوتها العاملة بسبب الواقع الجديد الذي فرضته تقنيات الذكاء الاصطناعي.

في حين، عللت شركة أخرى متخصصة في برامج إدارة العلاقات مع العملاء تسريح 4 آلاف موظف بأن وكلاء الذكاء الاصطناعي أصبحوا يؤدون المهام التشغيلية بكفاءة أعلى. كما كشفت مؤسسة مالية كبرى عن خفض 48 ألف وظيفة منذ العام الماضي، وربطت المديرة التنفيذية للشركة هذا القرار بتطور خوارزمياتالتعلم الآلي وقدرتها على تنفيذ المهام المعقدة.لكن خبراء اقتصاد يحذرون من المبالغة في إلقاء اللوم الكامل على الذكاء الاصطناعي، فيما يتعلق بموجات التسريح الأخيرة.

 

الذكاء الاصطناعي والوظائف .. وجهات نظر متباينة حول التأثير الحقيقي

تشير آراء الخبراء إلى وجود تباين واضح في تقييم الأثر الحقيقي للذكاء الاصطناعي على مستويات التوظيف، حيث ترى إحدى المديرات التنفيذيات في مركز أبحاث الميزانية بإحدى الجامعات المرموقة أن الاعتماد على تصريحات الشركات لتحديد تأثير التقنيات الحديثة على الوظائف يمثل ربما أسوأ منهجية للتحليل.

وأضافت أن العديد من قرارات التسريح تعكس ظروفا داخلية خاصة بكل شركة أكثر من كونها نتيجة حتمية للتطور التقني. وفي المقابل، أظهرت دراسة أجراها بنك مركزي أمريكي وجود علاقة بين انتشار الوظائف المعرضة للذكاء الاصطناعي وارتفاع معدلات البطالة منذ عام 2022.

لكن أبحاثا موازية أجراها أستاذ جامعي متخصص وجدت أن التأثير الفعلي اقتصر بشكل رئيسي على الوظائف المكتبية والإدارية، حيث شهدت هذه الفئات ارتفاعاملحوظافي طلبات الإعانة على البطالة بعد ظهور إحدى المنصات الذكية الشهيرة في نهاية عام 2022. ومع ذلك، أكد الباحث أن سوق العمل أصبح أكثر صعوبة لكل من العاملين في مجال التقنية والإدارة، لكنه استدرك بالقول إنه لا يمكن الجزم بأن الذكاء الاصطناعي يمثل العامل الوحيد خلف  هذه التغيرات. وتكشف هذه الآراء المتضاربة عن تعقيد المشهد الحالي وصعوبة عزل تأثير العامل التقني عن باقي العوامل الاقتصادية المؤثرة.

وتوضح الخبيرة الاقتصادية أن شركات التقنية العملاقة كانت قد وسعت عمليات التوظيف لديها بشكل مبالغ فيه خلال فترة الجائحة عندما خفض البنك المركزي أسعار الفائدة إلى مستويات شبه منعدمة، مما يجعل هذه الشركات تمر حاليا بمرحلة تصحيح هيكلي أكثر من كونها تستجيب لموجة الذكاء الاصطناعي. وأضافت أن الكثير مما يحدث لا يمثل ظاهرة جديدة، بل يشبه الأنماط التقليدية لتوسع الشركات وانكماشها وفقالدورات الاقتصاد المختلفة. لكنها أشارت إلى أن التحدي المستقبلي الأكبر يتمثل في التمييز بين الخسائر الوظيفية الدورية والخسائر الناتجة عن الأتمتة والتقنيات الذكية.

 

السياق الاقتصادي الأوسع وتأثيره على القرارات

تأتي قرارات خفض العمالة في إطار سياق اقتصادي أوسع، يشهد تحولات هيكلية عميقة، حيث أعلنت إحدى الشركات العملاقة أنها تسعى لتحقيق مرونة تنظيمية أكبر للاستفادة من الفرص التي يتيحها الذكاء الاصطناعي. وسجلت الشركة أداء مالياً قوياً في منتصف العام الحالي، حيث ارتفعت مبيعاتها السنوية بنسبة 13بالمائة لتتجاوز التوقعات السابقة في أسواق المال. ويرى خبير اقتصادي في إحدى الجامعات الأمريكية أن الشركات الكبرى تقع في صدارة عمليات خفض الوظائف المرتبطة بالذكاء الاصطناعي لأنها في الوقت نفسه منتجة ومستفيدة من هذه التكنولوجيا.

لكنه استدرك بالإشارة إلى أن جزء من عمليات التسريح الجارية قد يمثل مجرد تصحيح طبيعي بعد التوسع المفرط في التوظيف خلال فترة الجائحة العالمية. أما أستاذ التمويل في معهد إدارة الأعمال الشهير فقال إن الشركات العملاقة تمتلك القدرة على أتمتة الوظائف بسرعة تفوق منافسيها بسبب حجمها الهائل ومواردها الضخمة. وأضاف أن هذه الشركات قد تختار التوقف عن توظيف المزيد من العاملين في بعض الأقسام التي يمكن أتمتتها بالكامل. ويبدو أن مستقبل العمل في قطاع التقنية الأمريكي أصبح محكوماً بعملية إعادة توزيع الوظائف أكثر من إلغائها بشكل كلي.

ويبقى الذكاء الاصطناعي رغم تأثيره الواضح مجرد جزء من مشهد اقتصادي أوسع تشكله السياسات النقدية والدورات الاقتصادية العالمية المتعاقبة، حيث تشير القراءات المتعمقة إلى أن التغيرات التقنية تمثل عاملا واحدا ضمن مجموعة معقدة من العوامل التي تشكل خريطة التوظيف العالمية. ويتوقع مراقبون أن تشهد الفترة القادمة تحولات تدريجية في طبيعة المهارات المطلوبة، مع استمرار الجدل حول المدى الحقيقي لتأثير التقنيات الحديثة على مستقبل العمل البشري من خلال القطاعات المختلفة.

 ياقوت زهرة القدس بن عبد الله 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى