تكنولوجيا

مهارات سوق العمل في 2025: كيف تغيّر مفهوم النجاح المهني؟

مهارات سوق العمل في 2025 .. لم يعد الطريق من الجامعة إلى المهنة كما كان قبل عقدين من الزمن، حين كانت الشهادة الأكاديمية جواز المرور الوحيد نحو العمل، فالعالم المهني اليوم لم يعد ينتظر الخريجين ليكتشفوا صعوبة الميدان بعد التخرج، بل أصبح يسبقهم بخطوات، فارضًا تحولات جذرية في طرق التوظيف ومعايير النجاح.

 

كان التركيز في الماضي على الجانب النظري داخل الجامعة، فيما تُترك مواجهة الواقع العملي للخريج وحده، لكن التحوّل الرقمي السريع الذي اجتاح القطاعات كافة — من التعليم إلى الصحة والإعلام والاقتصاد — أعاد تعريف ما يعنيه “الجاهزية المهنية”. فالمهارات التي كانت مطلوبة قبل خمس سنوات لم تعد اليوم كافية، بل صارت “القابلية للتوظيف” (Employability) مرتبطة بالقدرة على التعلم المستمر، والتأقلم مع التكنولوجيا، والعمل في بيئات متغيرة وموزعة رقميًا.

تشير دراسات منظمة العمل الدولية (ILO) إلى أن أكثر من 50 بالمائة من الوظائف في الأسواق الحديثة تغيّرت طبيعتها بفعل الرقمنة، وأن نسبة كبيرة من الخريجين يواجهون صعوبة في الاندماج المهني لأن تكوينهم الجامعي ظل نظريًا ومنفصلًا عن التحولات الرقمية. وتبرز هذه النتيجة إشكالية محورية في علاقة التعليم بسوق العمل، بحيث لم يعد الاقتصاد المعاصر قائمًا على المعرفة فقط، بل على القدرة على تحويلها إلى مهارة قابلة للتطبيق الفوري.

وفي هذا السياق، يقدّم المنتدى الاقتصادي العالمي (World Economic Forum, 2023)  قراءة أكثر تفصيلًا لمستقبل المهارات، بحيث تشير تقاريره إلى أن 44 بالمائة من مهارات العاملين ستتغير خلال السنوات الخمس المقبلة. وهو ما يؤكد أن التعلم المستمر أصبح شرطًا للبقاء المهني وليس مجرد ميزة تنافسية. ويذهب التقرير أبعد من ذلك ليعتبر أن العامل القادر على التكيف مع الأدوات الرقمية وتحديث معارفه بشكل دوري هو من سيمتلك الريادة في أسواق العمل المستقبلية.

أما دراسة اليونسكو حول التعليم والذكاء الاصطناعي (UNESCO, 2022) فقد تناولت التحديات البنيوية التي تواجه المؤسسات الجامعية في زمن التحول الرقمي. إذ دعت إلى إعادة تصميم المناهج لتشمل مهارات التفكير النقدي ومحو الأمية الرقمية، باعتبارهما أساسين لمواكبة اقتصاد المعرفة. فالتعليم الجامعي لم يعد مجرد نقل للمعلومة، بل صار مطالَبًا بتدريب الطلبة على تحليلها وتوظيفها ضمن بيئات رقمية متغيرة، بما يضمن قدرتهم على الاندماج في سوق عمل تحكمه الخوارزميات.

ويعزّز تقرير LinkedIn Global Skills Report (2024) هذه المقاربة من زاوية مهنية، إذ يُبرز أن المهارات الأكثر طلبًا اليوم لا تتمثل في البرمجة فقط، بل في “القدرة على التكيف”، و“حل المشكلات المعقدة”، و“التواصل عبر بيئات رقمية”. وهي مهارات لا يمكن اكتسابها في قاعات الدرس التقليدية، بل من خلال خبرات واقعية وتجارب ميدانية تتيح للطالب أن يختبر المعرفة داخل بيئة عمل حقيقية.

ومن هنا برز مفهوم التعليم المدمج بالعمل” (Work-Integrated Learning)، الذي تطبّقه جامعات عالمية مثل تورنتو وسيدني وهلسنكي، بوصفه نموذجًا تعليميًا يربط بين التكوين الأكاديمي والممارسة المهنية. يقوم هذا النموذج على إشراك الطالب في مشاريع تطبيقية رقمية وتدريبات ميدانية أثناء الدراسة، مما يمكّنه من اكتساب مهارات تقنية وشخصية متداخلة، كحل المشكلات والتواصل الفعّال والتفكير النقدي. وقد أثبتت التجارب البحثية أن هذا النمط من التعليم يزيد من قابلية التوظيف بنسبة تتراوح بين 30 و40 بالمائة مقارنة بالمسارات التقليدية.

في المقابل، تُظهر دراسة (From Student to Working Professional: A Graduate Survey, 2024) أن ما يصنع الفارق الحقيقي في بداية المسار المهني ليس التفوق الأكاديمي فحسب، بل نوعية التجارب العملية التي ترافق الدراسة — من تدريبٍ ميداني وورشٍ مهنية ومشاريع تطبيقية — إذ تُمكّن الطالب من بناء هوية مهنية حقيقية تعكس قدرته على العمل الجماعي والابتكار والتكيّف.

هذه المعطيات البحثية كلها تكشف عن تحوّل جوهري في فلسفة التعليم والعمل معًا. فالعلاقة بينهما لم تعد خطّية، تبدأ بالجامعة وتنتهي عند أول وظيفة، بل أصبحت دائرية وتفاعلية، يتغذّى فيها التعلم من التجربة المهنية والعكس. ومن هنا تبرز أهمية أن تعيد الجامعات النظر في فلسفتها التعليمية، لتتحول من مؤسسات لتلقين المعرفة إلى فضاءات لإنتاجها واختبارها، عبر شراكات حقيقية مع سوق العمل.

أما بالنسبة للأفراد، فإنّ مواجهة هذا الواقع الجديد تتطلب تحولًا في العقلية قبل المهارة. فالمتعلم الناجح اليوم ليس من يحفظ المعلومات، بل من يحسن توظيفها في سياقات متغيرة. ولذلك توصي الاتجاهات الحديثة بأن:

  • يستثمر الخريجون في التعلم الذاتي عبر الدورات والمنصات الرقمية؛
  • يبنوا هويتهم المهنية الرقمية من خلال شبكات مثل LinkedIn؛
  • يبحثوا عن تجارب تدريبية أو تطوعية تدمج الدراسة بالممارسة.

أما المؤسسات التعليمية، فعليها أن تعيد بناء جسور التواصل مع بيئة العمل عبر دمج التدريب العملي في كل مسار دراسي. فالتجارب الدولية — خاصة في أستراليا وفنلندا — أثبتت أن برامج “التعلّم المدمج بالعمل” لا ترفع فقط من قابلية التوظيف، بل تخلق جيلًا من الخريجين يمتلكون وعيًا نقديًا وقدرة على التكيّف والابتكار، وهي الصفات التي يحتاجها سوق العمل في عصر الذكاء الاصطناعي.

 

رحلة الانتقال من الجامعة إلى المهنة لم تعد طريقًا مستقيمًا، بل صارت مسارًا متعرّجًا يتطلّب صبرًا ومرونةً وقدرةً على التكيّف. فالذكاء الاصطناعي، رغم ما يثيره من قلق، يشكّل في الوقت ذاته بوابةً نحو فرص غير مسبوقة، شرط أن نحسن توجيهه ونفهم لغته. فالمستقبل المهني لن يكون حكرًا على الأكثر حفظًا للمناهج، بل على الأكثر فهمًا للتحوّلات، وجرأةً على التعلّم، وقدرةً على تسخير التقنية بذكاء ووعي.

الخريجون اليوم يدخلون سوقًا لا يطلب منهم أن يكونوا “جاهزين للعمل”، بل أن يكونوا “جاهزين للتعلّم”. وهنا يبرز مفهوم القابلية للتوظيف بوصفه رحلة تكوين مستمرة تبدأ في الجامعة ولا تنتهي عند التخرج. لكن هذه الفجوة بين الدراسة والمهنة لن تُردم إلا عندما تدرك الجامعات أن دورها لا يقتصر على نقل المعرفة، بل على بناء القدرة على توظيفها في بيئة متحوّلة. فحين تبقى المناهج منفصلة عن عالم المهنة، يفقد الطالب فرصة اختبار ذاته في مواقف حقيقية.

وفي التجارب العالمية الرائدة، أثبت النموذجان الأسترالي والفنلندي أن “التعلّم المدمج بالعمل” هو الطريق الأنجع لجعل الجامعة مختبرًا حيًا لإنتاج الكفاءات، لا مجرد قاعة لتلقين النظريات.

في النهاية، لم يعد السؤال: كيف نواجه التقنية؟

بل  كيف نعيش معها ونتطور من خلالها؟

ففي عالمٍ تتبدّل فيه الوظائف أسرع مما تتبدّل المناهج، يغدو التعلّم المستمر هو المهنة الحقيقية الوحيدة التي لا تنقرض.

اعداد : مقيدش حليمة 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى