
في إحدى زوايا اليونان النائية. حيث لا يسمع سوى حفيف الأشجار وغناء الطيور بين الجبال. قفزت بلدة ريفية صغيرة تدعى “يوانينا” إلى صدارة المشهد العلمي بثورة طبية . ليس بفعل مختبرات عملاقة أو تمويل دولي، بل بفضل اجتهاد طبيب قرر أن يغيّر مستقبل الطب بأدوات العصر الرقمي، إذ اختار الذكاء الاصطناعي سلاحًا لمواجهة العزلة الطبية والتحديات اليومية، فكانت النتيجة ثورة هادئة لكنها واعدة.
في مستشفى حكومي متواضع يدعى “هاتزيكوستا”. يجلس الدكتور توماس تزيماس خلف شاشة حاسوبه. لا ليكتب وصفة أو يراجع ملفًا فقط. بل ليطلق العنان لنموذج ذكي يساعده في التشخيص والتحليل. ل
قد اكتشف أن هذه النماذج لا تنحصر مهامها في الأعمال الورقية. بل يمكنها أن تساهم في قرارات دقيقة وواقعية قد تغيّر مصير مريض بالكامل.
تشخيص دقيق وإدارة إنسانية
لم يعد الطبيب في يوانينا يعمل وحده، بل أصبح له معاون افتراضي قادر على تحليل الأعراض، اقتراح الاحتمالات، وحتى تقديم تفسيرات نادرة. ففي إحدى الحالات اشتبه النظام في إصابة مريض بـ”حمى كيو”.
وهي حالة غير شائعة على الإطلاق، وبعد التحقق تبيّن أن التشخيص غير صحيح، لكن الأهمية كانت في أن النظام أوسع مدارك الفريق الطبي وفتح أمامه احتمالاً لم يكن في الحسبان.
المثير في تجربة تزيماس ليس فقط اعتماده على الذكاء الاصطناعي، بل طريقته في التعامل معه، إذ يقول إن الخطورة الكبرى تكمن فيما يعرف بـ”هلوسة الذكاء”.
حيث يختلق النظام معطيات لا أساس لها من الصحة، ولتفادي هذا الخطر، يقوم بتعديل إعدادات النموذج وتقليل مستوى العشوائية. فيجعل ما يسميه “درجة الحرارة” منخفضة كي يلتزم النموذج بالوقائع فقط. وهو يرى أن درجة 0.3 كافية لتحقيق هذا الانضباط، خصوصًا حين يتعلق الأمر بصحة إنسان.
ليس هذا كل شيء، إذ استعان الطبيب أيضًا بأداة تفاوض ذكية لتجاوز الخلافات بين أفراد الطاقم الطبي. وهو ما منح الفريق تناغمًا أكبر، وساعد في تقليل التوتر والقرارات المتسرعة. ليؤكد أن التقنية ليست خصمًا للإنسان، بل شريكًا في اتخاذ القرار الرشيد إذا حسن استخدامها.
ثورة طبية .. مستقبل الطب بين يدي التقنية
وسط عيادة بسيطة، يصرّ “تزيماس” على أن الذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد فكرة مستقبلية. بل بات واقعًا يغيّر شكل المهنة التي أحبها منذ شبابه.
فهو يرى أن المهام التقليدية لبعض الأطباء ستتراجع لصالح أنظمة ذكية تنجز الأعمال بسرعة ودقة. خاصة في مجالات التصوير الطبي والعلاج النفسي. بل ويعتقد أن بعض أدوات الجراحة مثل جهاز “دافنشي” المعروف في الأوساط الطبية. قد يصبح مستقلاً تمامًا في المستقبل ويجري العمليات دون تدخل بشري مباشر.
لكن رغم ذلك، يرفض الطبيب تمامًا فكرة الاستغناء عن الإنسان. ويؤكد أن التخصصات التي تعتمد على العلاقة الشخصية بين الطبيب والمريض ستبقى في الصدارة.
وأن الذكاء الاصطناعي مهما بلغ تطوره، لا يمكنه أن يواسي مريضًا خائفًا أو يطمئن أمًا تنتظر نتيجة ابنها. كما لا يستطيع أن يتفهّم اللغة الجسدية أو الإشارات الدقيقة التي تُعبر عن ألم لا يُقال.
نظام غذائي، نفسية وسلوكيات صحية
“تزيماس” يذهب أبعد من ذلك، فيتحدث عن دور للذكاء الاصطناعي في تقديم برامج غذائية دقيقة وفق الحالة الصحية لكل مريض، بحيث يُخبره بما يجب أن يأكله ويتجنبه، ويشرح له التأثيرات المحتملة على جسده بطريقة بسيطة، بل ويستخدم لغته الخاصة لشرح ذلك، كأن يوجّه الكلام باللهجة المحلية أو بطريقة تُناسب عمر المريض وتعليمه، فيجعل المعرفة الطبية في متناول الجميع دون تعقيد.
كما يشير إلى أن هذه الأنظمة يمكن أن تُساعد في تقويم السلوكيات النفسية، وتقديم برامج دعم نفسي أولية تُقلل من الضغط والقلق، خاصة في المجتمعات المعزولة التي لا تجد بسهولة طبيبًا متخصصًا في الصحة النفسية، فيتحول الجهاز إلى مستشار أولي يساعد على التخفيف، ولو بجملة واحدة تُقال في وقت مناسب.
ورغم كل هذا التفاؤل، لا يُخفي “تزيماس” حذره، فهو يُشدد على أهمية مراقبة أداء هذه الأنظمة، وعدم التسليم بكل ما تقترحه، بل يُصر على أن الطبيب يجب أن يظل في مركز القرار، وأن الذكاء الاصطناعي، مهما بلغ، لا يمكنه أن يُحب مريضه كما يفعل الإنسان.
ياقوت زهرة القدس بن عبد الله