تكنولوجيا

ثقافة “موتايناي” ومهارات الذكاء الاصطناعي

اليابان تكشف طريقها نحو صفر هدر غذائي

في قلب المجتمع الياباني، ينبض تعبير تقليدي يُدعى “موتايناي”، ويُترجم ضمنيًا إلى “يا له من إهدار!”، لكنه في الواقع يحمل معنى أعمق من مجرد الامتعاض من رمي الأشياء.


إنه فلسفة حياتية متجذرة تدعو إلى احترام الموارد، وعدم التبذير، وإعادة الاستخدام، وتقدير النعمة. لا يتوقف الأمر عند حدود الأطعمة، بل يمتد إلى المياه والملابس والطاقة، ليشكّل أحد أوجه الاستهلاك الواعي الذي يطبع السلوك اليومي للفرد الياباني.

هذه الثقافة ليست مجرد وعظ أخلاقي، بل هي إطار تفكير جماعي انعكس في السياسات الحكومية، والتربية المدرسية، والأنظمة الصناعية، ليحوّل “موتايناي” من مجرد مصطلح إلى نهج عملي يسعى للحد من الهدر الغذائي في بلد يعاني من تحديات طبيعية وبيئية متراكبة.

تحديات الأمن الغذائي في دولة محدودة الموارد

رغم ما يُعرف عن اليابان من كفاءة وتطور تكنولوجي، إلا أن بنيتها الجغرافية تشكّل عائقًا أمام تحقيق الاكتفاء الغذائي. فمساحتها المحدودة، وطبيعتها الجبلية، والمناخ المتقلب، تفرض عليها استيراد قرابة ثلثي حاجاتها من الغذاء، وثلاثة أرباع أعلاف مواشيها. لكن المعضلة الأكبر تكمن في التناقض بين هذا الاعتماد الكبير على الاستيراد، وبين الكميات الهائلة من الطعام التي تُهدر سنويًا، والتي تصل إلى أكثر من 4.7 ملايين طن، رغم أن معظمها صالح للاستهلاك.

من المجتمع إلى الدولة

تفرد التجربة اليابانية في التصدي للهدر الغذائي ينبع من تكامل أدوار الأفراد والدولة والشركات. إذ لا تعتمد الحكومة فقط على القوانين والتنظيمات، بل تشجّع الثقافة المجتمعية على التحوّل إلى شريك في المعالجة، فتنظم حملات توعية في المدارس والأحياء، وتُنتج مقاطع مرئية تعليمية بطابع ترفيهي لتعريف الأطفال بطرق سهلة لحفظ الطعام والاستفادة منه.

في الوقت ذاته، تُعزز الدولة دور الشركات والمخترعين عبر منح حوافز للمشاريع التي تبتكر حلولًا تقلّص من فقدان الطعام خلال سلاسل التوريد، وتدعم بنوك الطعام التي تجمع الفائض القابل للاستخدام لإيصاله إلى المحتاجين.

قاعدة “الثلث” نموذجا

من أبرز الممارسات التي تسهم في هدر الطعام في اليابان قاعدة تسمى “الثلث”، وهي تنص على أن المنتجات الغذائية يجب أن تُسلَّم إلى المتاجر خلال الثلث الأول من مدة صلاحيتها، وإلا تُعتبر “غير مناسبة للتسويق”. فإذا كانت صلاحية منتج غذائي 6 أشهر، فإن المصنع يُلزَم بتسليمه في غضون شهرين فقط، ما يدفع كثيرًا من المواد إلى الإتلاف رغم سلامتها

ومع أن هذه القاعدة وُضعت للحفاظ على جودة المنتج، فإنها باتت اليوم محلّ مراجعة من قبل العديد من المتاجر التي بدأت في تخفيفها، إدراكًا لخطورتها على نسبة الهدر الوطني، خاصة أن كثيرًا من الدول الأخرى تطبّق قاعدة “النصف” أو “الثلثين”، ما يعكس توازنًا أكبر بين الجودة وتقليل الفاقد.

الذكاء الاصطناعي.. عين مراقبة داخل المطبخ

في السنوات الأخيرة، بدأت اليابان في تسخير الذكاء الاصطناعي كوسيلة لتقليص الهدر الغذائي في المنازل. فمع انتشار “الثلاجات الذكية”، بات بالإمكان مراقبة ما تحتويه من مواد، وتحليل تاريخ صلاحيتها، وتقديم اقتراحات آنية لتحضير وجبات باستخدام المكونات القريبة من انتهاء الصلاحية.

تجربة تجريبية أطلقتها إحدى الشركات بالتعاون مع مؤسسة رائدة في صناعة الأجهزة المنزلية، دمجت بين الكاميرات الذكية، وتحليل البيانات، وتطبيقات الهاتف المحمول، لتقديم حلول تفاعلية تُذكّر المستهلك بما لديه في ثلاجته، وتحثّه على التصرف قبيل فوات الأوان.

تطبيقات ومبادرات مبتكرة

إلى جانب الذكاء الاصطناعي، شهدت اليابان ازدهارا في عدد من التطبيقات الذكية التي تتيح للمطاعم والمتاجر بيع الأطعمة المتبقية بسعر رمزي أو مجاني بدل التخلص منها. هذه التطبيقات تربط المستهلكين بالموردين ضمن دوائر قريبة من أماكن سكنهم، ما يعزز منطق “الاستفادة المتبادلة” و”التقليل من النفايات”.

كذلك، تبنّت بعض المتاجر مبادرات ذكية مثل “خذ المنتج من الأمام”، والتي تدعو الزبائن إلى شراء المنتجات الأقدم من حيث تاريخ الصلاحية، وبالتالي تقليل فرصة رميها لاحقًا. هذا السلوك، وإن بدا بسيطًا، يمثل تحوّلًا في العلاقة بين التاجر والمستهلك نحو شراكة مسؤولة.

الأبعاد الاقتصادية والبيئية للهدر الغذائي

الهدر الغذائي لا يضر فقط بالأخلاق المجتمعية، بل يضرب عمق الاقتصاد والبيئة. ففي عام 2022 وحده، بلغت خسائر اليابان جراء الهدر الغذائي حوالي 40 تريليون ين، ونتج عنه أكثر من 10 ملايين طن من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون. وهي أرقام تعكس التداخل بين السلوك الفردي والآثار الجماعية، وتبيّن أن التصدي للهدر ليس قضية “أطعمة تالفة”، بل معركة ضد فقدان الموارد وارتفاع كلفة الحياة.

كبار السن والشباب.. أنماط مختلفة للهدر

دراسة حديثة أظهرت أن كبار السن في اليابان أكثر عرضة لإهدار الطعام من الشباب، إذ يشترون كميات أكبر من الأطعمة القابلة للتلف، ويميلون أثناء الطبخ إلى إزالة أجزاء صالحة للأكل بدافع النظافة أو التقاليد. في المقابل، يهدر الشباب الطعام بسبب ترك بقايا الوجبات، أو عدم الاهتمام بتخزينه جيدًا. هذا التفاوت يشير إلى الحاجة لخطابات توعوية موجهة بحسب الفئات العمرية، وليس وفق منطق موحد.

ما يجعل النموذج الياباني في مكافحة الهدر الغذائي جديرًا بالتأمل، ليس فقط انضباطه التقني، بل طابعه الثقافي العميق، القائم على احترام النعمة، وتقدير الجهد، والاعتراف بقيمة الأشياء قبل زوالها. إنه نموذج يمكن للدول الأخرى الاستلهام منه، شرط مواءمته مع خصوصياتها الاقتصادية والاجتماعية.

في ظل التغير المناخي والارتفاع المتسارع لأسعار المواد الغذائية، لم تعد المعركة ضد الهدر مجرد مسألة نفايات، بل صارت قضية عدالة غذائية، واستدامة بيئية، ونمو اقتصادي مستقر. وفي هذا السياق، تبرز اليابان كأحد النماذج القليلة التي دمجت بين وعي الأفراد، وصرامة الدولة، وتقدّم التكنولوجيا، لترسم ملامح مستقبل أكثر احترامًا للغذاء والحياة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى