
في عصر تتداخل فيه صور الإنسان مع إنتاج الآلة بشكل يصعب فصله، بدأ السباق نحو أساليب جديدة للتحقق من الهوية يأخذ منحنيات أكثر جرأة، آخرها ما أعلنه “سام ألتمان“، الرئيس التنفيذي لشركة الذكاء الاصطناعي الشهيرة، من مشروع للتحقق الرقمي عبر مسح قزحية العين، تجربة بدأت هذا الأسبوع في العاصمة البريطانية لندن، وسط تباين كبير في ردود الفعل بين من اعتبرها نقلة نوعية في حفظ النظام الرقمي، ومن رآها مشروع مراقبة متنكرًا في زي الابتكار.
يتمثل جوهر هذا المشروع في توزيع أجهزة كروية الشكل في شوارع لندن، تقوم بمسح قزحية العين للسكان لتأكيد أنهم بشر وليسوا أنظمة ذكية متخفية، الفكرة من حيث المبدأ تبدو خيالية، لكنها تستند إلى فرضية أن العالم الرقمي على وشك أن يفيض بالمحتوى الاصطناعي، الأمر الذي يتطلب تقنيات متقدمة للفصل بين الإنسان والآلة.
قزحية العين كبوابة رقمية: بين الأمن الرقمي وتضخم الرقابة
تقوم الفكرة على تطوير هوية رقمية مستخرجة من خصائص بيولوجية فريدة، وتحديدا من نمط قزحية العين، هذه الهوية ستُستخدم لاحقًا للوصول إلى خدمات رقمية متنوعة، من ضمنها التعاملات المالية أو التسجيل في التطبيقات الإلكترونية، ما يشير إلى أننا أمام تحول جوهري في مفهوم المصادقة الرقمية، ينتقل من كلمات المرور التقليدية إلى بصمة العيون
لكن في المقابل، فإن هذا التوجه يطرح تساؤلات ثقيلة، أهمها: من يضمن أن هذه البيانات البيولوجية لن تُستخدم خارج نطاق التحقق؟ وهل يمكن للأنظمة الحاكمة أو الشركات الكبرى أن تقاوم إغراء السيطرة على هذه المعلومات الفريدة؟ وهنا ترتفع أصوات كثيرة ترى أن المشروع قد يشكل تهديدًا غير مباشر لحرية الأفراد، عبر خلق قاعدة بيانات بيومترية واسعة النطاق تحت غطاء التطور التقني.
ما يُخيف بعض النشطاء الحقوقيين، ليس فقط جمع البيانات، بل ما يتبع ذلك من احتمالات تسريبها أو اختراقها، أو حتى استغلالها لأغراض اقتصادية وسياسية، فالتقنيات الجديدة لا تأتي وحدها، بل تتسلل ومعها أطماع المال والسلطة، خصوصًا في زمن تُمثّل فيه البيانات أغلى الأصول.
هوية رقمية عالمية: بين الإنصاف الرقمي وإعادة إنتاج التفاوت
يرى أصحاب المشروع أن هدفهم النبيل هو بناء نظام عالمي للتحقق من الهوية، يعترف بجميع البشر على قدم المساواة، ويمنح الجميع فرصة متكافئة للدخول إلى الاقتصاد الرقمي، وفي هذا السياق، يقول “سام ألتمان” إن العالم الرقمي المقبل يجب أن يميّز الإنسان الحقيقي من المحتوى المصطنع، لا لحجب أحد، بل لحماية الجميع من فوضى الاصطناع.
لكن هذا الطرح، رغم وجاهته النظرية، يواجه واقعًا مختلفًا، فليس جميع البشر قادرين على الوصول إلى هذه التقنية، ولا إلى الأجهزة التي تتطلبها، مما يفتح الباب أمام فئة قليلة تحتكر أدوات التعريف الذاتي الرقمي، بينما يُقصى الآخرون بحجّة عدم توفّر وسائل “التحقق”، فيتحول الأمر من مشروع إدماج، إلى مشروع إقصاء ناعم، يُضفي الشرعية على من يملك القدرة البيومترية، ويُقصي من لا يملك.
وعلاوة على ذلك، فإن الاعتماد على عناصر بيولوجية لإثبات الهوية يثير أسئلة عميقة حول حرية الاختيار، فهل يملك الإنسان الحق في رفض مسح قزحية عينه؟ وهل سيظل متمتعًا بنفس الحقوق إذا لم يفعل؟ أم أن الامتناع سيُفهم كرفض للتكنولوجيا وبالتالي كخروج غير معلن من دائرة الشرعية الرقمية.
بين وعود الابتكار ومآزق الخصوصية: هل نحن مستعدون؟
من حيث المبدأ، لا أحد يعارض تأمين الفضاء الرقمي أو مكافحة التزوير، لكن هل الخيار الوحيد المتاح هو كشف عيون الناس في الشارع؟ أليس من الممكن تحقيق نفس الغاية عبر تقنيات أقل اقتحامًا للذات الإنسانية؟ ولماذا نُساق دومًا نحو حلول مبنية على جمع المزيد من البيانات، بدل تقوية أنظمة الحماية نفسها
إن مشروع التحقق من خلال قزحية العين يعكس وجهًا جديدًا للصراع الرقمي المعاصر، صراع يدور في منطقة رمادية بين الحق في الأمان والحق في الخصوصية، وبين إغراء التكنولوجيا وخوف الفقدان التدريجي للحرية، ولا أحد يمكنه أن ينكر أن القفزة التي يمثلها هذا المشروع قد تكون ضرورية في عالم يزداد فيه تشابه الإنسان بالآلة، لكن ما يُفترض أن يُحمينا، لا ينبغي أن يتحوّل إلى سلاح ضدنا.
الهيئات الرقابية في أوروبا عبّرت عن قلقها، خصوصًا في دول مثل إسبانيا وألمانيا، حيث فُتح تحقيق رسمي حول طريقة تعامل الشركة مع البيانات الحساسة، وفي المقابل، تحاول الشركة طمأنة الجميع بأن البيانات لا تُرفع إلى أي خادم مركزي، بل يتم حفظها على أجهزة الأفراد، لكن التجربة علمتنا أن النوايا الحسنة لا تكفي ما لم تُرافقها آليات رقابة مستقلة وصارمة.
ما نشهده اليوم ليس مجرد تطور في أدوات التحقق من الهوية، بل هو انتقال ثقافي عميق يُعيد تعريف العلاقة بين الإنسان وهويته في العصر الرقمي، ففي زمن تتشابه فيه الصور، وتُنتج الخوارزميات وجوهًا ناطقة بالكلمات، يصبح إثبات أنك “إنسان” تحديًا لم يكن يخطر ببال أحد قبل سنوات قليلة.
لكن لا ينبغي أن يتحول هذا التحدي إلى مبرر للتجسس أو المراقبة، فكرامة الإنسان لا تُختزل في قزحية عين، ولا يُقاس صدقه ببصمة بيولوجية، بل تُصان حريته عندما يُترك له الخيار، ويُحمى من أن تُستخدم بياناته ضده أو أن يُحوّل إلى رقم في خوارزمية.
مشروع “سام ألتمان” قد يكون مدخلًا لتقنيات أكثر أمانًا، وقد يكون بذرة لنظام رقابي يتوسع بصمت، والحسم بينهما لا تحدده النوايا، بل القوانين التي تضبط، والوعي المجتمعي الذي يُقاوم، فإن لم نكن يقظين بما يكفي، فقد نصحو يوماً لنجد أننا فقدنا “إنسانيتنا الرقمية” ونحن نحاول فقط إثبات أننا بشر.
ياقوت زهرة القدس بن عبد الله