
يشهد العالم اليوم تحوّلاً جذرياً في مشهد الإعلام، انتقالاً من الصحف الورقية والنشرات الإخبارية التقليدية إلى منصات رقمية متعدّدة الوسائط، متاحة في كل لحظة ومن أي مكان. لم يعد المتلقي مجرّد مستهلك للأخبار، بل صار جزءاً من دورة إنتاجها، بفضل الهواتف الذكية وتطبيقات النشر الفوري.
هذا التحول، لم يغير فقط في طريقة الوصول إلى المعلومة، بل أعاد صياغة مفهوم “السلطة الإعلامية” برمّتها، مما يثير تساؤلات عميقة حول من يملك المعلومة، ومن يتحكّم في نشرها، ومن يتحمل مسؤولية تبعاتها.
السلطة لم تعد حكرا على المؤسسات الكبرى
في الماضي، كانت المؤسسات الإعلامية الكبرى وحدها القادرة على صناعة الرأي العام، والتحكم في سردية الأحداث. أما اليوم، فقد أصبح بوسع أي فرد يمتلك هاتفًا محمولًا أن يلتقط حدثًا، ويبثّه للعالم، فيحظى بعدد مشاهدات يتجاوز ما تحقّقه نشرات الأخبار الكلاسيكية.
ورغم ما يحمله ذلك من ديمقراطية ظاهرية، فإن هذا “التمكين الشعبي” قد يكون سلاحًا ذا حدّين، خاصة حين يغيب التحقق والدقّة في عرض الوقائع، أو حين يُستغل لحسابات شخصية أو أيديولوجية.
الصحافة التقليدية في مأزق وجودي
لم تَعُد الصحف المطبوعة تجد لنفسها مكانًا في جيوب القراء أو على طاولات المقاهي، فقد هزمت في سباق السرعة والدقة والانتشار أمام الإعلام الرقمي. لكنّ الأزمة أعمق من مجرد تراجع في التوزيع، بل إنها تمسّ جوهر الوظيفة الصحفية نفسها.
ففي بيئة رقمية مشبعة بالمحتوى، كيف يمكن للصحافي المحترف أن يقنع القارئ بمتابعة تحقيق معمّق بدلاً من الاكتفاء بعناوين جذابة ومختصرة؟ وهل تستطيع المؤسسات الصحفية أن تحافظ على معاييرها التحريرية، في ظل ضغط الإعلانات، وسرعة التفاعل، ومتطلبات الظهور في “صدارة النتائج”؟
منصات النشر… أرباح طائلة بلا مسؤولية تحريرية
أحد أبرز المفارقات في عالم الإعلام الرقمي تكمن في أن المنصات الكبرى، التي تحتكر التوزيع والانتشار (كمنصات التواصل الاجتماعي ومحركات البحث)، تجني الأرباح الطائلة من المحتوى دون أن تتحمل أي مسؤولية قانونية أو أخلاقية عمّا ينشر عبرها.
فبينما يخضع الصحفيون التقليديون لقوانين النشر والمساءلة، يجد صانعو المحتوى الرقمي أنفسهم في منطقة رمادية، حيث تغيب الضوابط ويتراجع مفهوم “المسؤولية المهنية”. هذا الوضع يفتح الباب أمام نشر الإشاعات والمعلومات المغلوطة، بل والتحريض أحيانًا، في غياب رادع أو مراجعة.
التحقق من المعلومة في زمن التضليل الرقمي
يتضاعف التحدي حين يصبح الكذب أكثر انتشارًا من الحقيقة، بفضل تقنيات التلاعب بالصوت والصورة، وتنامي ظاهرة “المحتوى الاصطناعي”، حيث يمكن إنتاج صور وأحداث مزيفة تبدو واقعية تمامًا. وفي هذا السياق، تتحول مهمة الصحافة الرقمية إلى ما يشبه التحقيق الجنائي، إذ يجب على الصحفي أن يتقن أدوات التحقق الرقمي، ويراجع مصادره بدقة، ويكشف أساليب التلاعب، ليحمي المتلقي من الوقوع ضحية للمعلومات الزائفة.
التحوّل إلى “الإعلام التشاركي” وتلاشي الحياد
في ظل الإعلام الرقمي، لم يعد الصحفي وحده من يروي القصة، بل صارت الجماهير تساهم في بناء الخبر، عبر التعليقات، المشاركة وإعادة النشر. ورغم ما في ذلك من طابع تشاركي يغني النقاش العام، إلا أن له جانباً مقلقاً، يتمثل في تراجع الموضوعية، وتضخّم دور الانتماءات الشخصية في تصوّر الحقيقة.
فالخوارزميات التي تحدد ما نراه على الشاشات لا تعرض الواقع كما هو، بل تصمّمه وفق ميولاتنا ورغباتنا، مما يجعلنا نحيا داخل فقاعات رقمية تعزز قناعاتنا وتقصي الرأي المخالف.
إشكالية الاستقلال المالي للمنصات الإعلامية الرقمية
من أبرز ما يعانيه الإعلام الرقمي الجاد هو تأمين تمويل مستقل يضمن له الاستمرارية دون الارتهان إلى الممولين أو المعلنين. فمعظم المواقع الإخبارية تعتمد على الإعلانات، مما يخلق ضغوطًا تدفعها أحيانًا لنشر محتوى مثير لجذب المشاهدات، على حساب الجودة والمصداقية. كما أن التنافس الشديد في السوق الرقمية يدفع بعض المنصات إلى ممارسات غير مهنية، مثل نشر الأخبار قبل التحقق منها، أو الاستناد إلى عناوين مضلّلة لتحقيق نسب مشاهدة عالية.
نحو إعلام رقمي أخلاقي ومستدام
المستقبل لا يبشّر بعودة الإعلام الورقي، بل يؤكّد أن الرقمنة ستزداد رسوخًا، مما يفرض على الفاعلين في القطاع إعادة التفكير في منظومة القيم المهنية التي تنظّم العمل الصحفي الرقمي. نحن بحاجة إلى مواثيق جديدة للأخلاقيات الرقمية، تراعي خصوصيات العصر، وتضع حدودًا واضحة بين حرية التعبير وبين نشر الأذى، بين الحق في الوصول إلى المعلومة وبين التعدّي على الخصوصية. كما أن هناك حاجة ماسّة لإدراج ثقافة التحقق والتفكير النقدي في المناهج التربوية، حتى لا يترك الجيل القادم في مهبّ الفوضى الرقمية.
الإعلام الرقمي ليس مجرد تطوّر تقني، بل هو تحوّل حضاري يعيد تشكيل العلاقة بين الإنسان والمعلومة، بين المواطن والسلطة، بين الرأي والحقيقة. ولكي تؤتي هذه الثورة أُكلها، لا بدّ من دمج التكنولوجيا بالقيم، والحرية بالمسؤولية، والمهنية بالتجديد. وحده الإعلام الذي يدرك حدوده، ويمارس سلطته بمعرفة ونزاهة، يمكنه أن يكون صوتا للناس، لا أداة في يد من يضلّلهم.