
عصر النقرات المعدومة .. يشهد عالم النشر الرقمي منذ ما يقارب السنة والنصف ظاهرة غريبة تثير الحيرة والقلق، حيث يواجه الناشرون في مختلف أنحاء العالم، انخفاضات هائلة في أعداد زوار منصاتهم الإلكترونية تتراوح بين 30 بالمائة، وقد تصل إلى 50 بالمائة، لكن الغريب في الأمر أن أدوات قياس تحسين ظهور المحتوى في محركات البحث.
تؤكد أن كل المؤشرات التقنية سليمة، حيث تبقى المواقع في مراكزها المتقدمة وتستمر قوة الروابط الواردة وتظل سرعة التحميل ممتازة، كما أن التحسينات الفنية للمواقع لا تشوبها أي مشكلة تذكر، وهذا يطرح تساؤلا محيرا حول سبب تناقص الزيارات رغم استقرار كل العوامل التقنية الظاهرة والإجابة، تكمن في أن المشكلة الحقيقية لم تعد في أداء المواقع نفسها بل في جوهر عملية البحث، حيث دخلنا مرحلة جديدة تتجاوز المفاهيم التقليدية التي اعتمد عليها الناشرون لسنوات طويلة بفضل التطور الهائل في تقنيات الذكاء الاصطناعي.
عصر النقرات المعدومة وتأثير الذكاء الاصطناعي
أصبحت ملخصات الذكاء الاصطناعي تظهر الآن في ما يقارب 13 بالمئة من إجمالي عمليات البحث على المنصة الشهيرة، بعد أن كانت هذه النسبة لا تتجاوز 6.5 بالمئة في بداية عام 2025، مما يعني أن النسبة تضاعفت خلال 3 أشهر فقط، وفي الوقت نفسه وصل تطبيق الدردشة الشهير إلى 700 مليون مستخدم أسبوعيا، بينما يعتمد 10 بالمئة من مستخدمي الإنترنت في الولايات المتحدة عليه لإجراء عمليات البحث بدلا من محركات البحث التقليدية.
كما تقدم منصات الذكاء الاصطناعي الأخرى إجابات فورية ومباشرة عن الأسئلة التي كانت تشكل في الماضي مصدرا رئيسيا لحركة الزوار toward الناشرين، وقد أصبح النمط الجديد واضحا، حيث يطرح المستخدم سؤاله ثم يقوم النظام الذكي بتلخيص الإجابة من عدة مصادر موثوقة ليحصل المستخدم على المعلومة كاملة داخل المنصة نفسها دون الحاجة إلى النقر على أي رابط خارجي وتكون النتيجة النهائية هي عدم حصول المواقع على أي زيارات جديدة، وهو ما يعني انعدام الإيرادات كذلك وقد استثمر الناشرون ملايين الدولارات في إنتاج محتوى ذي جودة عالية لكن منصات الذكاء الاصطناعي قامت بتدريب أنظمتها باستخدام هذه البيانات نفسها ليحصل المستخدم على الفائدة المعرفية دون عناء زيارة المصدر الأصلي وهذا هو بالضبط جوهر عصر النقرات المعدومة.
لماذا لم تعد استراتيجيات التحسين التقليدية كافية؟
كان الهدف الأساسي من تحسين محركات البحث في السابق هو دفع المستخدمين للنقر على رابط الموقع من صفحة النتائج، حيث تركزت الاستراتيجيات على تحقيق ترتيب متقدم للكلمات المفتاحية، وبناء شبكة من الروابط الواردة وتحسين سرعة تحميل الصفحات وإنشاء أوصاف جذابة للمحتوى.
وكانت كل هذه الجهود تهدف في النهاية إلى الحصول على زيارات أكثر ونقرات أكثر وجلسات استخدام أطول، لكن البحث المدعوم بالذكاء الاصطناعي لا يتبع هذه القواعد القديمة، حيث لم يعد البحث يتطلب النقر على الروابط الخارجية، فعندما يطرح المستخدم سؤاله على منصات الذكاء الاصطناعي لا يتم توجيهه إلى مواقع أخرى، بل يتم إنشاء الإجابة مباشرة من قواعد البيانات الضخمة التي تدربت عليها هذه الأنظمة، وسواء تم ذكر المصادر الأصلية أم لم تذكر يبقى المستخدم في كل الأحوال داخل المنصة الذكية نفسها، وهنا تفقد الترتيبات المتقدمة في محركات البحث التقليدية قيمتها الحقيقية، لأن المستخدم ببساطة لم يعد يستخدم هذه المحركات في البحث وأصبحت استراتيجيات الكلمات المفتاحية بالية أمام قدرة الذكاء الاصطناعي على فهم المعنى العميق للنص بدلاً من الاكتفاء بمطابقة الكلمات surface.
كما فقدت شبكات الروابط الواردة تأثيرها السابق، لأن منصات الذكاء الاصطناعي تعطي الأولوية للمصادر الموثوقة وفق معايير تختلف جذريا عن خوارزميات التصنيف التقليدية. لقد تغيرت قواعد اللعبة بشكل كامل، ومع هذا لا يزال معظم الناشرين يطبقون الاستراتيجيات القديمة.
التحول نحو تحسين الذكاء الاصطناعي.. المنهجية الجديدة
يسعى خبراء الصناعة حاليا إلى وضع مصطلح موحد، يصف هذا التحول الجذري في عالم البحث، حيث يطلق بعضهم تسمية التحسين للذكاء الاصطناعي، بينما يفضل آخرون استخدام مصطلحات مثل تحسين المحرك التوليدي أو تحسين محرك الإجابة أو تحسين النموذج اللغوي الكبير.
ورغم اختلاف التسميات، إلا أن الهدف واحد وجوهري، وهو تحسين المحتوى بطريقة تجعل منصات الذكاء الاصطناعي تستشهد به عند الإجابة على أسئلة المستخدمين، حيث لم يعد الهدف الرئيسي هو زيادة أعداد الزوار بل ضمان الحصول على استشهادات من الأنظمة الذكية، والفرق بين الاستراتيجيتين أساسي وجوهري، فتحسين محركات البحث التقليدي يسعى لتحقيق مراكز متقدمة تؤدي إلى نقرات وزيارات مباشرة، بينما يتحول التركيز في منهجية التحسين للذكاء الاصطناعي إلى ضمان فهم النماذج اللغوية للمحتوى بهدف الحصول على استشهاد صريح يضمن ذكر العلامة التجارية في سياق الإجابة المقدمة للمستخدم، وهنا لم يعد النجاح يقاس بعدد الزوار، بل بمدى ظهورك كمصدر موثوق في وعاء المعرفة الخاص بالأنظمة الذكية.
كيف تعمل استراتيجيات التحسين للذكاء الاصطناعي؟
بعد اختبار استراتيجيات التحسين للذكاء الاصطناعي مع مجموعة من الناشرين خلال العام الماضي، تبين أن هناك عناصر محددة تزيد فعليا من فرص الاستشهاد بالمحتوى هيكلية المحتوى، حيث تفضل الأنظمة الذكية النصوص النظيفة والقابلة للاقتباس المباشر، لذا يجب تقسيم النص إلى فقرات قصيرة مكونة من جملتين أو 3 يمكن الاستشهاد بها بسهولة واستخدام عناوين فرعية واضحة وإضافة أقسام للأسئلة المتداولة والإجابة عن الأسئلة مباشرة دون مقدمات مطولة.
كما أن الوضوح الدلالي يلعب دورا مهما، حيث لا يكتفي الذكاء الاصطناعي بمطابقة الكلمات، بل يفهم المعنى العميق مما يتطلب استخدام لغة غنية بالمفاهيم المحددة والأشخاص والأماكن المرتبطة بالموضوع لتسهيل فهم العلاقات الدلالية على النظام الذكي، مع إضافة ترميز خاص إلى كود الموقع، وهو عبارة عن بيانات منظمة تخبر محركات البحث والنماذج الذكية بشكل واضح وموحد عن طبيعة ومحتوى الصفحة، مما يعزز من وضوحها الدلالي ويزيد من فرص الاستشهاد بها.
ولم تفقد عوامل التصنيف التقليدية مثل الخبرة والتجربة والسلطة والثقة أهميتها، بل تتحول اليوم إلى فرص للاستشهاد من قبل الذكاء الاصطناعي، لذا يجب تقديم رؤى أصلية وبيانات فريدة لا يمكن للنظام الذكي الوصول إليها في أماكن أخرى، كما أن النبرة الحوارية أصبحت ضرورية، حيث يطرح المستخدمون أسئلتهم على الذكاء الاصطناعي كما لو كانوا يتحدثون إلى شخص لذا يجب مواءمة المحتوى لتلك النبرة الحوارية ليكون أقرب إلى الإجابة المباشرة مع البدء بالإجابة فوراً في الفقرة الأولى ثم إضافة السياق والتفاصيل لاحقا.
عصر النقرات المعدومة .. ما الذي يجب على الناشرين القيام به الآن؟
يجب التوقف عن قياس الأداء من خلال حركة الزيارات فقط والبدء بتتبع ذكر العلامة التجارية في استجابات الذكاء الاصطناعي، حيث بدأت تظهر أدوات متخصصة تتيح تتبع التحسين للذكاء الاصطناعي ورصد الاستشهادات، لذا أصبحت الأسئلة المهمة، وهي كم مرة يذكر اسم علامتك التجارية وما طبيعة المشاعر المرتبطة بها، وهل يتم الاستشهاد بك كمصدر موثوق، وكيف تقارن بالمنافسين.
بالإضافة إلى ذلك، يجب فتح الأبواب لبرامج الزحف الذكية، حيث أن حظر روبوتات الذكاء الاصطناعي يضمن أن النظام الذكي لن يستشهد بالمحتوى أبدا لذا يجب منحها الإذن للتعلم والاستشهاد مع تذكر أن الذكاء الاصطناعي يفضل المحتوى المنظم، حيث لا يحتاج كل محتوى إلى أن يكون تحقيقا صحفيا طويلا، بل يجب أن يكون المحتوى الصديق للأنظمة الذكية منظما بوضوح ومصمما خصيصا للإجابة المباشرة عن أسئلة المستخدمين، مع ضرورة بناء سلطة معرفية في مجالات محددة لأن منصات الذكاء الاصطناعي تعطي الأولوية للمصادر الموثوقة، لذا من الأفضل أن تكون المصدر النهائي والموثوق في 3 مواضيع رئيسية بدلا من أن تكون مصدرا متوسطا في 30 موضوعا.
تحويل الاستشهاد إلى إيرادات.. التحدي الوجودي
يعني المستقبل القائم على النقرات المعدومة، أن نماذج الأعمال التي تعتمد كليا على الزيارات تنهار، حيث يترجم هذا مباشرة إلى انخفاض حاد في ظهور الإعلانات وإيراداتها وإلى تراجع في تحويلات الاشتراكات، لأن عدداً أقل من المستخدمين يكتشف الموقع أساساً وهنا تكمن الفجوة الحرجة، حيث إن الحصول على استشهاد من الذكاء الاصطناعي لا يحقق أي إيرادات مباشرة، وهذه هي المعضلة الوجودية التي يجب على الناشرين حلها، كيف يمكن تحقيق الدخل من مجرد ذكر العلامة التجارية وما الآلية التي تحول الاستشهادات الثمينة إلى إيرادات فعلية.
وقد بدأت تظهر بعض الاستجابات، حيث يتجه بعض الناشرين نحو ترخيص محتواهم لشركات الذكاء الاصطناعي، بينما يراهن آخرون على المحتوى المدفوع وحظر روبوتات الذكاء الاصطناعي، ويركز فريق ثالث على بناء علاقات مباشرة وقوية مع الجمهور تتجاوز محركات البحث تماما، ولم تكتشف الإجابة المثالية بعد لكن هناك إجماع على أن تجاهل البحث بالذكاء الاصطناعي لم يعد خياراً استراتيجياً، حيث تغيرت قواعد لعبة تحسين المحتوى بشكل نهائي والناشرون الذين يتكيفون مع منهجية التحسين للذكاء الاصطناعي أولاً، هم من يضمنون بقاءهم في الساحة، بينما أولئك الذين يتمسكون بتحسين محركات البحث التقليدي فقط سيراقبون اختفاء الزيارات، وهم يتساءلون لماذا تبدو ترتيباتهم جيدة غير مدركين أن الجمهور لم يعد يبحث هناك أساساً لذا فإن السؤال الحاسم في هذا العصر هو لمن تحسن محتواك حقاً.
بن عبد الله ياقوت زهرة القدس



