تكنولوجيا

“ميثافون”.. هاتف سبب ضجة على مواقع التواصل

حين يصبح الإدمان عادة بلا جهاز

لم يكن مشهد امرأة تتفقد هاتفًا شفافًا (ميثافون) في طابور متجر حدثًا عابرًا على “تيك توك”. فالفيديو الذي التُقط لها جذب أكثر من خمسين مليون مشاهدة، وطرح سؤالًا بدا ساذجًا في ظاهره: “ما هذا؟”. في الحقيقة، ما شاهدناه ليس جهازًا ذكيًا، بل تمثيلًا ملموسًا لحالة نفسية تعيشها أجيال اليوم: إدمان الهاتف.


“ميثافون”، هذا الاسم الغريب، ليس هاتفًا حقيقيًا، بل قطعة من الأكريليك الشفاف تأخذ شكل الهاتف، وتُباع كوسيلة نفسية للمساعدة في الفطام التدريجي عن الجهاز الذكي، دون قطع الإحساس بوجوده.

ما هو هاتف “ميثافون”؟

هاتف “ميثافون” ليس جهازًا حقيقيًا، بل قطعة شفافة تشبه شكل الهاتف، صُممت لمساعدة الأشخاص على التخلّص من إدمان الهواتف الذكية. فكرته تقوم على إشباع الشعور النفسي بوجود هاتف في اليد أو الجيب، دون أن يحتوي على أي تقنيات أو وظائف. هو بمثابة “وهم ملموس” يعكس عمق التعلّق السلوكي بالشكل أكثر من المضمون، ويُستخدم كأداة للحد من التوتر الناتج عن الابتعاد عن الهاتف الحقيقي.

الهاتف كامتداد جسدي

منذ أن تحول الهاتف المحمول إلى جهاز ذكي، أصبح امتدادًا للجسد البشري، لا يُفارقه في الجيب أو اليد أو تحت الوسادة. نحن لا نحمله فحسب، بل نحسّ به، نتحسّسه، ونفقد أعصابنا إذا اختفى للحظات. هذا التعلق الحسي العميق أوجد ظواهر مثل “الاهتزاز الوهمي” و”الهلع الرقمي”، بل وتحوّل الهاتف إلى شيء أقرب إلى ملجأ عاطفي. “ميثافون” يستغل هذه النقطة تحديدًا، فيقترح بديلاً ملموسًا لشعور الامتلاك، دون تفعيل أي وظيفة حقيقية. هو هاتف بلا إشعارات، بلا شحن، بلا شبكات، لكنه يحاكي الشكل والوزن والملمس.

الإدمان السلوكي

ما يقدّمه “ميثافون” هو اختبار لحقيقة صادمة: الإدمان لا يكمن في التكنولوجيا، بل في السلوك. حين نحتاج إلى “نسخة بلاستيكية” من الهاتف لنشعر بالاطمئنان، فهذا يعني أن العلاقة بين الإنسان والجهاز تجاوزت المنفعة إلى التعلّق النفسي. إنه أشبه بمحاولة فطام المدخن باستخدام سيجارة إلكترونية أو وهمية. نحن لسنا مدمنين على المحتوى بقدر ما نحن مدمنون على الإحساس بالحضور الرقمي الدائم، على تمرير الإصبع، على لمس الشاشة، على وهم “المتعة السريعة”.

ميثافون كمنتج أم كمرآة نفسية؟

السؤال هنا: هل “ميثافون” منتج تجاري ذكي يستغل الهوس العام بالتكنولوجيا؟ أم هو مرآة ساخرة تضعنا أمام هشاشتنا النفسية؟ قد يبدو للبعض أنه لا يعدو أن يكون مزحة ثقيلة، لكن نفاد كميته من الأسواق في أيام قليلة يدلّ على أن هناك من يرى فيه حلًا أو مهربًا من ذاته. إننا في زمنٍ أصبح فيه اللاشيء منتجًا فقط لأنه يشبه شيئًا نعرفه ونشتاق إليه. وهذا ما فعله “ميثافون”: جهاز لا يفعل شيئًا، لكنه “يشبه الهاتف”، ويمنحك شعورًا مريحًا بأنك ما زلت ممسكًا بقطعة من العالم الرقمي.

العلاج بالوهم

استخدام نسخة غير فعلية من الهاتف كوسيلة للتعافي من الإدمان يفتح النقاش حول مفهوم “العلاج بالوهم”. لقد عرفنا طُرقًا مشابهة في عيادات الإقلاع عن التدخين أو الكحول، لكن أن نلجأ لشيء يُشبه الهاتف دون أن يكون كذلك، هو اعتراف بأن المشكلة ليست في الجهاز، بل فينا نحن. السؤال: هل يمكن لقطعة بلاستيكية أن تساعد فعلًا في تقليل التعلق الرقمي؟ أم أن الفكرة تعمّق فقط التعلّق بالشكل وتعيد تدوير الإدمان في صورة جديدة؟ الجواب غير محسوم، لكن الأكيد أن “ميثافون” يحفّزنا على التفكير.

حين يتسلل التصميم إلى الوعي

“ميثافون” هو أيضًا درس في قوة التصميم الصناعي. قطعة شفافة، بلا وظائف، لكنها مصمّمة بطريقة تجعل الدماغ يتعامل معها كجهاز حقيقي. هذا يؤكد أن شكل الهاتف، حجمه، وزنه، وتفاصيله المرئية، هي جزء كبير من ارتباطنا به. لقد تعلّمنا أن “الشكل” هو ما يمنح الأشياء معناها، حتى لو غابت الوظيفة. وبذلك يصبح “ميثافون” أداة تفضحنا: هل نحتاج للوظيفة؟ أم نكتفي بالشكل الذي يثير فينا شعور الانتماء والطمأنينة؟

ما بعد الهاتف

في النهاية، “ميثافون” ليس ثورة تقنية، بل صرخة خافتة ضد الطوفان الرقمي. جهاز وهمي في زمن واقعي جدًا، يكشف أن الانفصال عن الهاتف لم يعد قرارًا بسيطًا. نحن لا نعيش مع هواتفنا فقط، بل نعيش من خلالها. والتخلّي عنها، حتى مؤقتًا، أصبح تحدّيًا نفسيًا لا يقل صعوبة عن التخلّي عن علاقة عاطفية. “ميثافون” لا يعد بحل، بل يطرح سؤالًا: هل يمكننا العودة إلى أنفسنا دون شاشات؟ وهل يكفي أن نحمل شكل الهاتف دون روحه، لنُشفى من التعلّق؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى