الثـقــافــة

مـقـابـسـات

تأمّلات حول الموسيقى والوعي

بقلم: أ. منير كوايدية

 

تعتبر اللغة الطبيعية في الأصل ظاهرة صوتية، بمعنى أنها تفترض وتقوم أساسًا على الصوت، أمّا الكتابة فهي محاولة للتعبير عن اللغة المنطوقة؛ محاولة تقريبية لتسجيل الواقع الصوتي للغة. وعادة ما ينظر إلى العلاقة المفترضة التي تجمع الموسيقى باللغة الطبيعية إلى أنهما في الأصل ظاهرتان صوتيتان، وأنهما قد تطورتا عن سلف مشترك، أسماه الباحثون باللغة-الموسيقية. فاللغة في الأساس هي تكرار لصوت واحد للدلالة على المرجع نفسه. اللغة ظاهرة صوتية تفترض وتقوم أساسًا على الصوت، أمّا الكتابة فهي محاولة للتعبير عن اللغة المنطوقة؛ تسجيل الواقع الصوتي للغة. وبالمثل، فقد بدأت الموسيقى، وبحسب الإثنوموسيقولوجيا (Ethnomusicology)، معتمدةً بشكل كلي على الإيقاع. وكانت أسرة الآلات الإيقاعية هي أول الآلات الموسيقية التي اصطنعها الإنسان البدائيّ. كانت الموسيقى عند البدائي تعتمد التكرار بصفة أساسية، أيّ تكرار صوت أو نغمة واحدة أو نغمتان. يؤيد كل ذلك أطروحة اللغة الموسيقية أو الموسيلغة (Musilanguage) وهي الفكرة التي تفترض أن الموسيقى واللغة كانتا في الماضي السحيق الأمر نفسه. وقد أخذت الموسيقى واللغة في الانفصال والتطور عن هذا السلف اللغويّ-الموسيقيّ كل منهما بطريقة مختلفة عن الأخرى. والواقع، إن قضية ارتباط الموسيقى باللغة لا تقتصر على مجرد الأصل المشترك والتشابه البنيوي، بل أن تعريف الموسيقى نفسه من الممكن أن ينطبق أيضًا على اللغة، والعكس.

بالإضافة لذلك ثمة علاقة ثلاثية تربط بين الموسيقى واللغة والغناء، ويظهر ذلك في محاكاة أصوات الطيور والحيوانات عند الإنسان القديم؛ إذ يُرجع داروين نشأة اللغة إلى تلك المحاكاة لأصوات الطبيعة والحيوانات. وهكذا، كما يقول روسو، فإن (الكلمات الأولى كانت هي الأغاني الأولى)، ومن ذلك أن الميثولوجيات القديمة غالبًا ما كُتبت بطريقة شِعرية؛ بحيث تُغنَّى عند الإلقاء والترتيل، مثل المهابهاراتا الهندية، وإلياذة هوميروس.

غير أن تشابه اللغة الطبيعية مع الموسيقى، لا يعني أن الإمكانات التعبيرية واحدة في الاثنين. ولتوضيح ذلك يمكننا العودة إلى مقولة  فتغنشتاين الشهيرة التي يقول فيها: (حدود اللغة هي حدود عالمي). تشير هذه المقولة إلى أن عالمنا ووعينا يتشكل ويتقيد بحدود لغتنا أو ما يمكن التعبير عنه لغويًا؛ نفكر باللغة ونعبّر بها ونتواصل من خلالها، وما يقع خارج حدودها يظل طوال الوقت منطقة مبهمة عصية على التحدد (ربما نشعر بها لكننا لا نمتلك القدرة على صياغتها في قالب لغوي؛ وهو ما عبّر عنه قديمًا بـ (ما يعجز عنه نطاق القول). غير أن الموسيقى كلغة وتعبير تتجاوز وتكسر هذه القيود التي للغة الطبيعية، فهي تعكس بأنواعها المختلفة مجموع المشاعر التي تشكل أساس الوجود البشري، وهي في قيامها بذلك تحرر الدال من مدلوله وتفك ارتباطها بالكلمات، ومن ثمّ فالموسيقى تقدم خطابًا محملًا بإمكانات تأويلية تفوق بكثير ما تتيحه اللغة الطبيعية (لا أقول أنها لا نهائية الدلالة، لكنها بالتأكيد تتفوق على اللغة الطبيعية في هذا الجانب). لذا، إذا أخذنا بوجهة نظر فتغنشتاين السابقة، يمكننا القول بأن لغة الموسيقى تعمل على مد نطاق حدود عالمنا بشكل كبير. هذه الإمكانات الدلالية للموسيقى تختلف في الدرجة والنوع باختلاف نوع الموسيقى، فالموسيقى الإلكترونية (وتحديدًا الرقمية EDM منها)، على سبيل المثال، تمتلك إمكانات دلالية أكثر اتساعًا من تلك التي يتوفر عليها التقليد الكلاسيكي (لا أزعم أفضليته، بل أشير فقط إلى أن الرقمي يحمل بطبيعته قدرات دلالية أعلى)، لأنها تتيح استخدام نغمات وأصوات وآلات لم تكن مستخدمة من قبل. ذلك أن التقليد الكلاسيكي تأسّس على قواعد معينة، تشبه إلى حد كبير قواعد النحو في اللغة الطبيعية؛ بمعنى أن تركيب الأنغام كان لابد أن يحدث وفق قواعد نظرية معينة ومتفق عليها، لكن الموسيقى الرقمية تكسر هذه القواعد، وبالتالي تفتح إمكانات تعبيرية متحررة إلى حد كبير.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى