
تخيل أن هناك كتابا قديما جدا، عمره أكثر من ألفي عام، دُفن تحت الرماد بسبب انفجار بركاني، ولم يتمكن أحد من قراءته منذ ذلك الحين.
هذا ما حدث في مدينة هيركولانيوم الإيطالية، التي غمرها الرماد البركاني سنة 79 ميلادية بعد انفجار جبل فيزوف. بين أنقاض المدينة، وُجدت لفائف بردي متفحمة، لكن لم يستطع أحد فتحها لأن مجرد لمسها قد يؤدي إلى تلفها.
تقنية حديثة لإنقاذ الماضي
في السابق، لم يكن من الممكن قراءة هذه اللفائف دون فتحها، وهو أمر مستحيل بسبب هشاشتها. لكن العلماء اليوم يستخدمون تقنيات حديثة تُمكّنهم من النظر داخل المخطوطات دون الحاجة إلى لمسها. باستخدام أشعة خاصة تُسمى “الأشعة السينية المقطعية”، استطاع الباحثون تصوير كل طبقة من اللفافة بشكل دقيق ثلاثي الأبعاد.
ذكاء اصطناعي يقرأ ما لا تُبصره العين
بعد الحصول على الصور، جاء دور الذكاء الاصطناعي، حيث طوّر فريق من الباحثين في جامعة كنتاكي برنامجًا حاسوبيًا ذكيًا يستطيع اكتشاف آثار الحبر داخل الورق، حتى لو كانت غير مرئية للعين.
هذا البرنامج يُحلّل الصور ويُحدّد أماكن النصوص بدقة كبيرة، مما يساعد على “قراءة” ما بداخل اللفافة دون فتحها.
اكتشاف فيلسوف من الماضي
النتيجة كانت مذهلة: استطاع الفريق قراءة نص داخل لفافة تُعرف باسم (PHerc.172)، وتبيّن أنها من تأليف الفيلسوف الإغريقي “فيلوديموس”، الذي كان من أتباع الفيلسوف الشهير “إبيقور”.
يتحدث النص عن “الرذائل والفضائل”، أي الصفات السيئة والجيدة، ويشرح كيف يمكن للناس أن يميزوا بينهما ويختاروا الأفضل في حياتهم. إنه دليل أخلاقي من العصور القديمة، لكنه لا يزال يحمل أفكارًا مهمة لنا اليوم.
“تحدي فيزوف”: مبادرة عالمية لفك أسرار المخطوطات
هذا الاكتشاف جاء ضمن مبادرة علمية اسمها “تحدي فيزوف”، أُطلقت عام 2023، وتدعو العلماء والمبرمجين من مختلف دول العالم للمشاركة في فك رموز لفائف هيركولانيوم باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي. كل فريق يستخدم خبراته الحاسوبية للمساعدة في قراءة هذه اللفائف دون أن تُمسّ يد بشرية بها.
أول كلمة تُقرأ بعد قرون من الصمت
في أكتوبر الماضي، نجح أحد الفرق في قراءة أول كلمة من لفافة لم تُفتح من قبل. الكلمة كانت “أرجواني”، وهي تدل على لون ملكي فاخر كان شائعًا في العصور القديمة. رغم بساطتها، فإن هذه الكلمة كانت إنجازًا كبيرًا، لأنها أثبتت أن التقنية تعمل فعلاً ويمكن أن تُستخدم في قراءة المزيد من النصوص.
لقاء بين الماضي والمستقبل
قد يبدو غريبًا أن تلتقي الفلسفة القديمة بتقنيات الذكاء الاصطناعي الحديثة، لكن هذا ما حدث فعلاً. لقد أصبح من الممكن الآن أن نستمع لأفكار من عاشوا قبل آلاف السنين، بفضل أدوات صنعناها اليوم. الذكاء الاصطناعي لم يكتف بمساعدة الأطباء والمخترعين، بل بدأ أيضًا بإحياء أصوات الماضي.
أمل في اكتشاف مكتبة كاملة
يعتقد العلماء أن هناك مئات من اللفائف الأخرى التي لم تُقرأ بعد، وقد تحتوي على نصوص فلسفية أو أدبية نادرة. وإذا استمر العمل على هذه التقنية، فقد نتمكن يوما ما من اكتشاف مكتبة كاملة من العصور القديمة، تخبرنا كيف كان يفكر الناس آنذاك، وماذا كتبوا عن حياتهم وأفكارهم.
التكنولوجيا في خدمة التاريخ
هذا الإنجاز يُظهر كيف يمكن للتكنولوجيا أن تخدم التراث الإنساني، وأن تفتح لنا أبوابًا جديدة لفهم التاريخ. بدلًا من التنقيب بالمعاول، صار العلماء يحفرون بالضوء والبرمجيات، ويستخرجون كنوزًا من دون أن يُلحقوا بها أي ضرر.
ماذا يحمل المستقبل؟
النجاح في قراءة هذه اللفافة هو خطوة أولى فقط. هناك العديد من المخطوطات تنتظر أن تُكتشف. ومع تطور التقنيات بشكل مستمر، من الممكن أن نصل قريبًا إلى مرحلة نستطيع فيها إعادة بناء الماضي حرفًا بحرف، وكأننا نُعيد كتابته من جديد، بعيون الذكاء الاصطناعي.