
منذ نصف القرن العشرين، بدأت الرقمنة تتسلل ببطء إلى بعض القطاعات، ثم تسارعت بقوة مع ظهور شبكة الإنترنت في التسعينيات، وتعززت بانتشار البيانات الضخمة في الألفية الحالية (2013م)، فأصبحت الأصفار والواحدات تسيطر على العالم. إذ إن هذا الترميز الثنائي (0 و1)، وهو لغة الحاسب، يتغلغل يوماً بعد يوم في كل شيء، من لعب الأطفال إلى المؤسسات وحكومات الدول التي تنتقل إلى الرقمنة.
وأثرت الرقمنة على الطريقة التي يعيش فيها العالم بشكل شامل، سواء في الجوانب الاقتصادية أو الاجتماعية، حتى أصبح من النادر أن تجد شخصاً ليس له علاقة “بالرقمنة” من قريب أو بعيد. وأصبح يطلق على الذين لا يلمون بكيفية التعامل مع تقنيات المعلومات الرقمية “الأميون الرقميون”، ستُغيّر “الرقمنة” العالم حياة البشر جذريًا بانتشار التقنيات الحديثة المُزلزلة، مثل الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية، والطباعة ثلاثية الأبعاد وشبكة الجيل الخامس المتنقلة، التي من المتوقع تنفيذها بحلول 2020. ستقوم هذه التقنيات بنقل البيانات الضخمة ومعالجتها بسرعة أكبر، وربط عدد كبير من الأشياء الذكية والأشخاص والحوسبة السحابية وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، وستزيد “الرقمنة” ليس فقط من العائدات الاقتصادية، بل ستسهم أيضًا في تحقيق أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة، ولن تتحقق فوائد هذه التقنيات المبتكرة من دون “رقمنة” كل شيء في العالم، أصبح الحديث عن “الرقمنة” أكثر انتشارًا مع توسع المجتمع المعلوماتي الثالث، حيث يمتلك كل فرد هاتفًا جوالًا، ويتواجد %70 من سكانه في النطاق العريض المتنقل، ويستخدم نصفهم الإنترنت والحواسيب. وبحلول العام المقبل 2020م، يُتوقع أن يكون لدى %40 من المؤسسات اختصاصيو ذكاء اصطناعي، وسيجرب %70 منهم الذكاء الاصطناعي، وستستخدمه %25 من المؤسسات في الإنتاج. وبعد ذلك بسنتين (2022م)، ستختبر %70 من الشركات تقنيات غامرة، وستنتج “بلوكتشين” 3.1 تريليون دولار أمريكي بحلول 2030م، وبفضل انتشار المجتمع المعلوماتي والبيانات الضخمة، أمكن استثمار البيانات والعمليات “المُرقمنة” في تغذية أنظمة الذكاء الاصطناعي لتقوم بدورها الاقتصادي والتنموي في مجالات مثل:
الرقمنة ستؤثر في مجالات متعددة
الأشياء الآلية: مثل الزراعة الأوتوماتيكية، والروبوتات، والمركبات ذاتية القيادة، والطائرات المسيرة، حيث ستسهم في تحسين الكفاءة وتقليل التكلفة في هذه القطاعات. التحليلات المعززة: باستخدام التعلم الآلي ومعالجة اللغة الطبيعية، ستتمكن الشركات من استخراج تحليلات أعمق وأكثر دقة من البيانات، مما يساعدها في اتخاذ قرارات أفضل وتحسين أداء الأعمال،التطوير الذاتي: من خلال استخدام خوارزميات الذكاء الاصطناعي، يمكن للأنظمة والبرامج تطوير أنفسها بشكل مستمر، مما يزيد من كفاءتها وفعاليتها مع مرور الوقت،التوأم الرقمي: يسمح التوأم الرقمي بتمثيل رقمي للأشياء والعمليات والأنظمة المادية، مما يتيح فرصًا لاختبار السيناريوهات وتحسين الأداء قبل تطبيق التغييرات في العالم الحقيقي، الحوسبة عند الحافة: يتيح هذا النهج نقل المعالجة الرقمية للبيانات إلى مصدرها نفسه، مما يقلل من تأخير البيانات ويسمح باتخاذ قرارات فورية وفعالة في الوقت الفعلي، تلك التطبيقات هي جزء من التحول الرقمي الذي سيؤثر بشكل كبير في شتى جوانب حياتنا والعمل والاقتصاد،التطبيقات الغامرة، مثل الواقع المعزز والواقع المختلط، تقدم تجارب تفاعلية مبتكرة تمزج بين العالم الافتراضي والواقعي، مما يسهم في توفير معرفة إضافية وتحسين الاتصال والتفاعل،الحوسبة الكمومية تعتمد على وحدات البيانات الكمية، مما يتيح معالجة أسرع بكثير من الحواسيب التقليدية، حيث يمكنها التعامل مع مزيج من الصفر والواحد وحالات أخرى، مما يفتح أبوابًا جديدة للحوسبة على مستوى جديد تمامًا، البلوكتشين هو تقنية رقمية تعتمد على مبدأ دفتر الحسابات الموزع، مما يسمح بإجراء المعاملات المالية والحكومية والصحية بثقة دون الحاجة إلى وسيط، مما يزيد من الشفافية والأمان في عمليات البيانات والمعاملات،الأماكن الرقمية الذكية تعتبر بيئات رقمية ومادية يتفاعل فيها البشر والأنظمة التقنية الذكية بشكل متناغم، مما يسهم في تحسين جودة الحياة وكفاءة الخدمات في المدن الذكية وغيرها من البيئات المستدامة.
“الرقمنة” هو مصطلح حديث يشهد تباينًا في المفاهيم والمقاييس المتعلقة به،يشتمل المصطلح على مفاهيم متنوعة تتعلق بتحويل البيانات التناظرية إلى سلسلة رقمية من “البتات” و”البايتات”، مما يمكن معالجتها بواسطة الخوارزميات الحاسوبية بفاعلية وسهولة. وتشمل”الرقمنة”أيضًا استخدام التقنيات الرقمية لتحويل نماذج الأعمال والعمليات، وتوفير فرص جديدة لتوليد الثروة وللتنمية المستدامة،يمكن تحديد “الرقمنة”بشكل عام على انها تمثيل البيانات التناظرية بصورة رقمية: مثل المستندات، والصور، والإشارات الإلكترونية، والبيانات الحكومية والبنكية، حيث يتم تحويلها إلى سلسلة من البتات والبايتات لمعالجتها بواسطة الحواسيب،استخدام التقنيات الرقمية في تغيير النماذج والعمليات: مما يسهم في تحقيق مردود اقتصادي واجتماعي أعلى، وتحسين الكفاءة والإنتاجية،تطوير جذري في طريقة عمل المؤسسات: باستخدام التقنيات الرقمية الحديثة، مما يتيح لها التوافق مع أهدافها وتلبية احتياجات عملائها بشكل أفضل،يعتبر “الرقمنة” عملية متعددة الأبعاد تسهم في تطوير الاقتصاد وتحسين الخدمات وتعزيز التنمية المستدامة. وهو مصطلح يشمل عدة مفاهيم تتعلق بتحويل البيانات والعمليات والأعمال إلى صيغ رقمية، مما يفتح الأبواب أمام فرص جديدة للابتكار والتطور،الذكاء الاصطناعي يمثل قدرة الحواسيب أو الأنظمة الروبوتية على أداء المهام التي ترتبط تقليديًا بالذكاء البشري. يشمل هذا المجال تصميم وتنفيذ أنظمة تتمتع بعمليات فكرية تشبه إلى حد كبير العمليات التي يقوم بها البشر، مثل القدرة على التفكير واكتشاف المعاني والتعميم والتعلم من التجارب، يتمحور الذكاء الاصطناعي حول استخدام خوارزميات الحاسوب لإنشاء آلات تعمل وتتفاعل بطريقة تشبه سلوك البشر. يتعامل الذكاء الاصطناعي مع تطوير “وكلاء أذكياء”، أي نظم تقنية تدرك بيئتها وتنفذ إجراءات موضوعية تزيد من فرص نجاحها، وذلك من خلال استخدام تقنيات متقدمة مثل:
الشبكات العصبية الاصطناعية: وهي نظم محاكاة للشبكات العصبية في الدماغ البشري، تعتمد على تفاعل العديد من الوحدات البسيطة المتصلة معًا لمعالجة المعلومات،شبكة نظير إلى نظير تتيح هذه الشبكة للحواسيب المشاركة في تبادل الملفات والوصول إلى الموارد دون الحاجة إلى وسيط مركزي،تهدف تطبيقات الذكاء الاصطناعي إلى تحسين الكفاءة وزيادة الإنتاجية في مختلف المجالات مثل الطب، والصناعة، والتجارة، والنقل، وغيرها. ويعتبر الذكاء الاصطناعي مجالًا حيويًا يشهد تطورات مستمرة ويعد أحد أهم التقنيات الحديثة التي تشكل مستقبلًا واعدًا للتقدم التكنولوجي،البيانات الضخمة تعزز أهمية “الرقمنة” بشكل كبير، حيث يتزايد حجمها وتنوعها بشكل مستمر. فمع نمو البيانات الضخمة من 33 زيتابايت في عام 2018 إلى 175 زيتابايت المتوقعة في عام 2025، يتم توليد كميات هائلة من البيانات بشكل مستمر، خاصةً في مجالات مثل المركبات ذاتية القيادة والمدن الذكية وإنترنت الأشياء،لفهم هذه الضخامة، فإنه يمكن أن يستغرق تنزيل 175 زيتابايت من البيانات بمتوسط سرعة 25 ميجابت في الثانية ما يقارب 1.8 بليون سنة! يتعامل حاليًا أكثر من 5 مليارات مستهلك مع البيانات يوميًا، ومن المتوقع أن يصل هذا العدد إلى 6 مليارات بحلول عام 2025، مما يمثل 80% من سكان العالم،وتشير الإحصائيات إلى أن البيانات في الوقت الحقيقي ستشكل حوالي 30% من إجمالي البيانات العالمية، حيث سيتفاعل كل فرد مع البيانات كل 18 ثانية. ومن الملاحظ أن معدل التفاعل مع البيانات قد ارتفع بشكل كبير، حيث ازداد من حوالي 300 تفاعل يوميًا في عام 2010 إلى 5000 تفاعل يوميًا في الوقت الحاضر.
تتطلب هذه الكميات الهائلة من البيانات الضخمة تطبيق “الرقمنة” على ثلاث طبقات رئيسية تشمل:
تصور نظام البيانات الرقمية وفقًا للمفهوم الذي ذكرته يتكون من ثلاث طبقات رئيسية:
النواة:
تشمل مراكز بيانات المؤسسة والمخازن السحابية ومراكز البيانات التشغيلية مثل شبكات الكهرباء والهواتف. هذه الطبقة تُعتبر القلب النابض للبيانات حيث يتم تخزينها ومعالجتها بشكل مركزي.
الحافة:
تتمثل في معدات المؤسسة وتطبيقاتها التي لا تتمثل في مراكز البيانات مثل خوادم مواقع العمل وأبراج خلايا الهواتف ومراكز البيانات الصغيرة البعيدة. تعمل هذه الطبقة على معالجة البيانات بشكل محلي وتقديم الخدمات بشكل فعال للمستخدمين.
النهاية:
تشمل المستخدمين والحواسيب والهواتف وأجهزة الاستشعار والمركبات ذاتية القيادة والمدن الذكية. في هذه الطبقة، يتم تجميع البيانات الرقمية من الأجهزة المتصلة والمستخدمين وتوجيهها إما إلى الحافة لمعالجتها بشكل محلي أو إلى النواة للمعالجة المركزية. يُعتبر هذا الموقع مهمًا لتطبيقات الذكاء الاصطناعي واتخاذ القرارات في الوقت الحقيقي، مما يتيح تحسين تجربة المستخدم وتوفير الخدمات بشكل أفضل. على سبيل المثال، يتم جمع بيانات كاميرات المركبات ذاتية القيادة وأجهزة “إنترنت الأشياء” في هذه الطبقة لتحليلها واستخدامها في اتخاذ القرارات.
تأثير “الرقمنة” على الاقتصاد يظهر بوضوح في عدة جوانب:
استخدام الذكاء الاصطناعي وتقنيات الرقمنة يسهم في تحسين استخدام الموارد ورأس المال والعمالة بكفاءة أكبر، مما يؤدي إلى زيادة الإنتاجية وتحسين الأداء الاقتصادي،يتم إنشاء نماذج أعمال جديدة في مجال التجارة الإلكترونية وشبكات النظير إلى نظير، مما يعزز التبادل التجاري ويخلق فرصًا جديدة للأعمال وتوليد الثروة،تنتقل المستهلكين من شراء المنتجات المادية إلى استخدام الخدمات الرقمية، مما يجعل الحدود بين المنتج والمستخدم غير واضحة. فالمستهلكون أيضًا يساهمون في إنتاج الأصول الرقمية، مثل المعلومات التي ينشرونها عبر منصات الإنترنت، وهذه الأصول لا تظهر في الإنتاج المحلي الإجمالي،تتيح الرقمنة استثمارات في أتمتة الأعمال وتطويرها لتصل إلى مستوى يقارب ذكاء الإنسان، مما يعزز الفعالية والكفاءة في العمليات التجارية،تُعد “الرقمنة” غذاءً للذكاء الاصطناعي، حيث يتم تطبيق التقنيات الرقمية في تطوير وتحسين أنظمة الذكاء الاصطناعي،يتوقع أن تتسارع وتيرة تبني تقنيات الذكاء الاصطناعي في الشركات، مما يؤدي إلى زيادة الفعالية وتحسين الأداء الاقتصادي،يتنوع مستوى “الرقمنة” في القطاعات المختلفة، حيث توجد فجوات بين الشركات المتقدمة في هذا المجال والشركات التي لم تتبنى التقنيات الرقمية بشكل كافٍ،تُعد مؤشرات “دليل الرقمنة” و”دليل الذكاء الاصطناعي” مؤشرات هامة لقياس درجة تبني التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي في القطاعات المختلفة، مما يسهم في فهم تأثيرها على الاقتصاد بشكل شامل.
يتبع…
بقلم: جلال يياوي