
على الرغم من موجة الاهتمام العالمية التي صاحبت انتشار أنظمة الذكاء الاصطناعي التوليدي، ورغم ما تبثه بعض المنصات الإعلامية من توقعات تتحدث عن تفوق هذه الأنظمة على قدرات البشر الإبداعية، إلا أن الأبحاث العلمية بدأت تضع إطارا أكثر دقة لهذه الظاهرة، إذ تشير إلى أن الذكاء الاصطناعي لا يملك القدرة على تقديم إبداع أصيل بل يعمل ضمن حدود واضحة تحكمها بنيته الرياضية.
وقد شاعت خلال الفترة الماضية مخاوف من أن النماذج التوليدية قد تنتزع مكانة الكُتاب والفنانين والمبتكرين، وأن العالم في طريقه إلى عصر يتراجع فيه دور الإنسان المبدع، إلا أن دراسة حديثة صدرت في أستراليا جاءت لتفنّد هذه الفكرة مؤكدة أن الإبداع الرقمي لا يتجاوز حدود التوليد، وأن الفارق بين إنتاج الإنسان والنموذج الآلي ما يزال جوهريا.
وترى الدراسة أن ما يبدو للكثيرين إبداعا خارقا لا يعدو كونه قدرة على تركيب أنماط موجودة سلفا مما يخلق مخرجات مقنعة ظاهريا لكنها تفتقر إلى الأصالة التي تميز العمل البشري القادر على التجديد والابتكار وتجاوز المألوف.
نتائج الدراسة ونظرتها إلى السقف الإبداعي للنماذج التوليدية
أشرف على الدراسة البروفيسور “ديفيد كروبلي”، وهو أستاذ متخصص في الابتكار الهندسي وقد نُشرت نتائجه ضمن بحث تناول العلاقة بين التوليد الآلي والإبداع البشري مؤكدا أن الإبداع في النماذج اللغوية لا يتجاوز الحد الرياضي الذي تفرضه خوارزمياتها.
وأظهرت الدراسة أن القدرة الإبداعية لهذه النماذج بلغت فقط ربع الدرجة القصوى على مقياس يمتد من الصفر إلى الواحد، وهو ما يعني أن أداءها يظل ضمن مستوى الإنسان المتوسط دون القدرة على مضاهاة الفنانين المحترفين أو المبتكرين أصحاب الخبرة العالية وذلك نتيجة المعايير الرياضية التي تحد من قدرتها على القفز نحو إنتاج جديد كليا.
ويشير الباحث إلى أن ما يميز الذكاء الاصطناعي هو محاكاة السلوك الإبداعي وليس امتلاك القدرة الحقيقية على ابتكار شيء فريد، إذ يعتمد النموذج على التنقيب في كم ضخم من المواد السابقة، وإعادة تركيبها في صياغات تبدو جديدة لكنها لا تمثل إبداعا أصيلا بالمعنى المعرفي أو الفني.
ويؤكد أن الخلط بين التوليد والإبداع هو ما خلق انطباعا واسعا بأن النماذج الآلية قادرة على تقديم أعمال خلاقة، في حين أن جوهر عملها قائم على التوقع الإحصائي وليس على الحدس أو التجربة أو الخيال، وهي العناصر التي تمنح الإنسان القدرة على إنتاج أفكار تتجاوز ما هو مألوف.
وترى الدراسة أن جانبا من الالتباس يعود إلى تفاوت القدرات الإبداعية بين البشر، إذ إن نسبة كبيرة من الناس تعمل ضمن مستوى أقل من المتوسط ولذلك قد تبدو مخرجات النماذج التوليدية مثيرة للإعجاب لهم، لكن أصحاب القدرات الإبداعية العالية يدركون بسرعة الحدود التي لا يستطيع الذكاء الاصطناعي تجاوزها.
أثر هذه النتائج على مستقبل الصناعات الإبداعية
تعد هذه الدراسة من أوائل الأبحاث التي تقدم تقييما رسميا لقدرة الإبداع الرقمي انطلاقا من الأسس الداخلية للنماذج التوليدية، وقد خلصت إلى أن هذه النماذج لن تكون بديلا عن المبدع البشري بل أداة تساعده على تسريع جوانب معينة مثل إعداد المسودات أو توليد أفكار أولية للعصف الذهني دون أن تمتلك القدرة على تقديم ابتكار جوهري.
وتحذر الدراسة من أن الاعتماد الكامل على هذه الأنظمة في المجالات الفنية أو الثقافية، قد يؤدي إلى إنتاج أعمال متناسخة تخلو من البصمة الشخصية لأن الخوارزميات تعيد تدوير الأنماط نفسها مهما بدت متنوعة بينما يظل الإنسان وحده القادر على توليد أفكار تتسم بالجدة والعمق والدلالة.
ويشير البروفيسور “كروبلي”، إلى أن الوصول إلى مستوى احترافي من الإبداع الآلي يتطلب إعادة بناء النماذج من جذورها، بطريقة تسمح لها بتجاوز الأنماط الإحصائية، وهو ما لا يتوافق حاليا مع طبيعة الخوارزميات القائمة على التوقع والتقريب وليس على القدرة على كسر القواعد أو اكتشاف مساحات جديدة.
وتخلص الدراسة إلى أن الإبداع البشري بما يحمله من لحظات حدسية وانطلاقات غير متوقعة سيظل عاملا حاسما لا يمكن استبداله، إذ يمكن للذكاء الاصطناعي أداء مهام مركبة وبسرعة كبيرة لكنه لا يستطيع بلوغ المستوى الذي يخلقه عقل مبدع قادر على تخطي حدود التجربة السابقة وأن العالم ما يزال بحاجة إلى الموهوبين أكثر من أي وقت مضى.
بن عبد الله ياقوت زهرة القدس



