
في خضم موجات التغيير السريعة التي تطال أنماط حياتنا، وفي ظل تسارع الابتكارات الرقمية، برز مصطلح جديد أثار جدلاً واسعاً وأعاد النقاش حول آثار التكنولوجيا على عقولنا. إنه “تعفّن الدماغ”، وهو توصيف صادم أطلقه أكاديميون من جامعة “هارفرد”، ولاقى انتشاراً كبيراً على منصات التواصل الاجتماعي، حيث وجد صداه لدى فئات واسعة من المستخدمين، لا سيما الشباب.
فما الذي يقف خلف هذا المصطلح؟ وهل نحن فعلاً أمام أزمة وعي جماعية سببها الاستخدام المفرط للتكنولوجيا؟ وكيف تحوّل هذا التعبير من مصطلح علمي تحذيري إلى وسم ترند يتداوله الجميع بنوع من السخرية والقلق؟
ما هو تعفّن الدماغ؟
مصطلح “تعفّن الدماغ” لا يشير إلى حالة طبية حقيقية أو مرض عضوي معروف، بل هو توصيف مجازي أطلقه باحثون في جامعة هارفرد للإشارة إلى التأثيرات السلبية العميقة التي يحدثها الإفراط في استخدام الإنترنت، خاصة المحتوى السطحي والمتكرر والمُصمم ليحاكي غرائز التسلية السريعة.
وفقاً للدراسة المنشورة، فإن العقول المعاصرة تتعرض يوميا إلى سيل من المحفزات السطحية عبر تطبيقات مثل “تيك توك” و”إنستغرام” و”رييلز”، ما يؤدي إلى تآكل القدرة على التركيز، وانخفاض معدلات التفكير العميق، وتراجع ملكة التحليل النقدي. وكلما زادت الجرعة اليومية من هذا النوع من الاستهلاك الرقمي، كلما أصبح الدماغ أقل قدرة على استيعاب المعلومات المعقدة أو التعامل مع المهام الذهنية المتقدمة.
من المختبر إلى المنصة: كيف بدأ الانتشار؟
رغم أن الباحثين في هارفرد استخدموا المصطلح في سياق أكاديمي لتبسيط فهم الظاهرة، فإن سرعان ما تم تبنيه من قبل المستخدمين على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث وجدوا فيه توصيفا صادما ولكنه دقيق لما يشعر به الكثيرون: تشتت، فقدان للتركيز، خمول ذهني، ورغبة دائمة في التسلية الفورية دون هدف واضح.
بدأ الأمر بتداول مقاطع مصورة تحاكي السلوكيات “الدماغية المتعفنة”، مثل الانتقال اللاواعي من مقطع قصير إلى آخر، أو مشاهدة فيديوهات لأكثر من ثلاث ساعات دون الشعور بالوقت. وانتشرت العبارات الساخرة مثل “أنا رسميًا دماغي متعفّن” و”بحثت عن علاج لتعفّن الدماغ، فظهر لي فيديو مقترح عن طبخ المعكرونة في الصباح“.
وجه السخرية والقلق: حين يتحوّل المرض إلى مزحة
اللافت في تفاعل المستخدمين مع مصطلح “تعفّن الدماغ” هو التداخل بين الجدية والسخرية. فقد أصبح المصطلح وسيلة للتعبير عن الإحباط من الذات الرقمية، ولكن في إطار فكاهي يخفف من وطأة الواقع.
ويفسر علماء النفس هذا التفاعل على أنه آلية دفاع جماعية، حيث يلجأ الأفراد إلى تحويل الاضطرابات الذهنية إلى مادة ساخرة، كوسيلة للهروب من مواجهة الواقع المؤلم المتمثل في الإدمان الرقمي.
لكن في الوقت ذاته، فإن شيوع المصطلح وانتشاره قد يكون دافعًا لبعض المستخدمين لمراجعة سلوكياتهم الرقمية، خاصة حين يكتشفون أن شعورهم اليومي بالضيق والفراغ قد يكون له تفسير علمي يُعرف بـ”تعفّن الدماغ“.
العادات الرقمية وأثرها على الدماغ
تشير الدراسات الحديثة إلى أن دماغ الإنسان يتأثر بشدة بطبيعة المحتوى الذي يتلقاه بصفة متكررة. فالتنقل السريع بين مقاطع الفيديو، دون سياق متماسك أو غرض تعليمي، يضعف الوصلات العصبية المسؤولة عن التركيز والاستيعاب طويل المدى. كما أن التعرّض المستمر للتنبيهات والإشعارات يُدخل الدماغ في حالة استنفار دائم، ما يؤدي إلى ارتفاع معدلات القلق، وتراجع جودة النوم، وتشتت الانتباه حتى أثناء أداء المهام اليومية.
هذه الظواهر جميعها تتجمّع تحت ما أطلقت عليه جامعة هارفرد “تعفّن الدماغ”، والذي يمكن اعتباره مزيجاً من الإدمان الرقمي، والتشتت المعرفي، والانخفاض التدريجي في الذكاء العاطفي والاجتماعي.
-
هل من سبيل للنجاة؟
السؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل يمكن علاج تعفّن الدماغ؟ وهل بالإمكان استعادة صفاء الذهن في عالم تغزوه الخوارزميات وتطوّقه المحتويات السريعة؟
الإجابة ليست بسيطة، لكنها ممكنة، حيث يشدد الأخصائيون على ضرورة العودة إلى “الروتين العقلي الصحي”، والذي يتضمن تقليص مدة استخدام الأجهزة الذكية، وخلق فترات يومية خالية من الشاشات، والعودة إلى القراءة المطوّلة، والتأمل، وممارسة الرياضة.
كما أن تخصيص وقت للأنشطة الإبداعية، مثل الرسم أو العزف أو الكتابة اليدوية، يساعد الدماغ على إعادة تشكيل الوصلات العصبية التي تآكلت بفعل المحتوى الرقمي السريع.
دور المؤسسات التعليمية والإعلامية
الوقاية من تعفّن الدماغ ليست مسؤولية فردية فقط، بل تتطلب سياسات تربوية وإعلامية تشجع على الاستهلاك الرقمي الواعي. فالمؤسسات التعليمية مطالبة بإدماج التربية الرقمية ضمن المناهج الدراسية، وتدريب الطلبة على مهارات الفرز النقدي للمحتوى.
أما وسائل الإعلام، فعليها أن تتبنى خطابًا متوازنا لا يشيطن التكنولوجيا، بل يعترف بأثرها ويعمل على توجيه استخدامها نحو أهداف بناءة، بدل الانسياق وراء الإثارة والترندات الفارغة.
الدماغ ليس آلة: بين الضغط والإنقاذ
في النهاية، من المهم أن نتذكر أن الدماغ البشري ليس آلة يمكنها الاستمرار في العمل تحت ضغط غير محدود، فالإفراط في استهلاك المحتوى الرقمي لا يؤدي فقط إلى التشتت، بل قد يؤدي في بعض الحالات إلى أعراض اكتئابية، ونوبات قلق، وحتى فقدان المعنى.
تعفّن الدماغ ليس مجرّد تعبير ساخر، بل ناقوس خطر يدقّ في أذهان جيل كامل يعيش بين الشاشات، ويخسر تدريجياً علاقته مع الواقع، والذات، والآخر. الوعي هو الخطوة الأولى، والتغيير ممكن… بشرط أن نجرؤ على مواجهة شاشاتنا، لا الهروب إليها.