
لا يزال التحول الرقمي بأبعاده الكبرى في الإقتصادات يعيد تعريف التفعلات الاجتماعية فيما تقف الجزائر في مفترق الطرق، بحيث تعمل جاهدة من أجل تحديث اقتصادها قصد تحسين حياة مواطنيها، وعليه بادرت باتخاذ العديد من القرارات من شأنها إحتضان هذه الثورة الرقمية. لكن هناك العديد من الهياكل التي تطرح الكثير من التساؤلات وأيضا تقارب البعثات التي تصب كلها في فعالية ورؤية هذا التحول. في هذه المذكرة، سنستكشف ديناميات الرقمنة في الجزائر، مسلطين الضوء على التحديات والفرص والتطلعات من أجل مستقبل رقمي واعد.
لقد سبق وأن أعلنت الجزائر عن إنشاء المفوضية العليا للرقمنة، لأنها كانت على دراية بهذا الواجب، وتدرك الرهانات والتحديات التي يجب أن تواجهها في طل التكنولوجيا الجديدة أو ما يسمة بالثورة التكنولوجية الرابعة، وعليه وضعت كل إمكانياتها البشرية والمادية من أجل اكتساب الرهان. ولكن ما هو مكانها في المشهد المكتظ بالفعل من الهياكل المخصصة للرقمنة؟
الفائدة والمهام المفترضة للمفوضية العليا للتحويل الرقمي، يكمن فيما يلي: من الناحية الأساسية والمثلى، قد تكون المفوضية العليا للتحويل الرقمي هي العامل المحفز لتحويل رقمي أسرع وأكثر فعالية في الجزائر، ومن المفترض أن تكون مهمتها الأولى هي تحديد أو ترسيخ الاستراتيجية الوطنية للتحويل الرقمي، بحيث أن هذه الاستراتيجية فستأخذ في الاعتبار خصوصيات كل قطاع اقتصادي وأيضا في الحسبان كل نوع من المنظمات، سواء كانت إدارات أو شركات خاصة أو عامة. فهل تُعتبر المفوضية العليا للتحويل الرقمي بمثابة بوصلة ترشد الجزائر عبر متاهات التحويل الرقمي؟ وهل يجب أن يكون إنشاءها فقط ردًا على الحاجة إلى تسريع هذا التحويل؟، أم أيضًا حلاً استراتيجيًا للتحديات التي واجهت المبادرات السابقة؟
في قلب رؤيتها، يجب أن تسعى المفوضية العليا للتحويل الرقمي الآن إلى تقديم منظور شامل للتحويل الرقمي، هذا الأمر لا يتعلق فقط ببدء مشاريع جديدة أو اعتماد أحدث التقنيات، ولكن للتأكد من أن كل مبادرة تتوافق مع التطلعات الوطنية واحتياجات كل قطاع، صغيرًا كان أم كبيرًا. يجب أن يتم دعم هذه الرؤية الشاملة بخبرة فنية لا مثيل لها، تجمع خبراء المجال للتأكد من أن الجزائر تعتمد أفضل الممارسات المتاحة.
ولكن بعيدًا عن الخبرة البسيطة، يجب على المفوضية العليا للتحويل الرقمي أن تحتل موقعًا كحارس لموارد البلاد. من خلال النظرة الشاملة، يمكنها تحديد التكرار، وعدم الكفاءة، والتأكد من أن كل دينار يتم استثماره في التحويل الرقمي يضيف قيمة إلى الأمة.
عند النظر إلى الوراء، نحو الإجراءات الرقمية التي تم اتخاذها بالفعل، يصبح دور المفوضية العليا للتحويل الرقمي أكثر أهمية بكثير. من المفترض أن تكون واحدة من مهامها هي تقييم كل مبادرة، الاحتفال بالنجاحات، التعلم من الفشل، وتحديد مجالات التحسين. هذا التقييم ليس هو الغاية في حد ذاته، ولكن وسيلة لإعادة تعريف وإعادة توجيه الجهود لزيادة تأثيرها.
تعددية الهياكل المخصصة للتحويل الرقمي في الجزائر
في قلب استراتيجية تطوير الجزائر، يعد التحويل الرقمي ركيزة أساسية. ومع ذلك، تطرح سؤالًا ملحًا: لماذا هذا التعدد في الهياكل المخصصة للتحويل الرقمي؟ فعلاً، مع إنشاء المفوضية العليا للتحويل الرقمي مؤخرًا، يتساءل بعض المراقبين عن الحاجة إلى مثل هذه الكيان، خاصة في وجود وزارات ووكالات موجودة بالفعل، ولها مهام مماثلة. لقد قطعت الجزائر خطوات كبيرة بالفعل في سعيها نحو التحويل الرقمي. يشهد وزارة التحويل الرقمي والإحصاء، التي تأسست في 2020، على هذا الرغبة في دمج التحويل الرقمي في الاستراتيجية الوطنية. وبالمثل، وزارة البريد والاتصالات ووزارة اقتصاد المعرفة والشركات الناشئة والمؤسسات الصغيرة لديها جميعًا مهام تدور حول التحويل الرقمي. ناهيك عن الوكالة الوطنية لتطوير الرقمي 1، التي لم تصبح عملية بعد، والتي كان من المفترض أن تلعب دورًا مركزيًا في هذا التحويل.
إذاً، لماذا المفوضية العليا للتحويل الرقمي؟ يقول البعض أن هذه الهيكل الجديد قد يكون له دور أكثر استراتيجية، مما يضمن تنسيقًا أفضل بين الكيانات الموجودة. والهدف من ذلك هو تجنب التداخلات، وضمان تحقيق تآزر أفضل، وضمان تنفيذ استراتيجية التحويل الرقمي الوطنية بفعالية.
خطة العمل لتحويل الاقتصاد الوطني إلى الرقمي
خطة العمل لتحويل الاقتصاد الوطني إلى الرقمي هي مشروع طموح يتطلب نهجًا منظمًا ومتعدد الأبعاد. لتحقيق ذلك، من الضروري التركيز على أربعة محاور رئيسية:
تحديث البنية التحتية الرقمية
تعتمد أساسيات أي اقتصاد رقمي على بنى تحتية قوية وموثوقة، وهي في قلب أي تحويل. لذا، من الضروري توسيع تغطية الإنترنت عالي السرعة لكل زاوية وزاوية في الإقليم، مما يضمن الوصول المتساوي للجميع. علاوة على ذلك، تحديث أنظمة الحاسوب للإدارات العامة وجميع الشركات أمر بالغ الأهمية. يجب أن تكون هذه الأنظمة قوية للتعامل مع الطلبات المتزايدة ومرنة للتكيف مع التغيرات التكنولوجية.
التدريب والتعليم الرقمي
التحويل الرقمي ليس مقتصرًا فقط على التكنولوجيا؛ بل يشمل الأشخاص أيضًا. لذلك، من الضروري تزويد كل مواطن بالمهارات الرقمية اللازمة للتنقل في هذا العصر الجديد. يمكن تحقيق ذلك من خلال دمج وحدات التدريب الرقمي في المناهج المدرسية، وورش العمل للمحترفين، وحملات التوعية للجمهور العريض.
تعزيز الابتكار التكنولوجي
الابتكار هو القوة الدافعة وراء التحويل الرقمي. لذلك، من الضروري دعم الشركات الناشئة التكنولوجية، التي غالبًا ما تكون في طليعة الابتكار. علاوة على ذلك، يمكن أن يؤدي تشجيع البحث والتطوير في المجال الرقمي إلى تحقيق تقدم كبير، مما يجعل الجزائر زعيمًا في بعض المجالات التكنولوجية.
— السيادة الرقمية: في عالم مترابط، أصبحت السيادة الرقمية حجر الزاوية للأمن الوطني والاستقلال. بالنسبة للجزائر، يعني ذلك أخذ السيطرة الكاملة على ما لا يقل عن هذه المجالات السبعة الرئيسية:
– البنية التحتية: من الضروري امتلاك والتحكم في البنى التحتية الرقمية التي يعتمد عليها اقتصادنا، مما يضمن الاستقلالية التشغيلية.
– الصناعة الرقمية وتنويع الاقتصاد: من خلال تطوير صناعة رقمية قوية، يمكن للجزائر تقليل اعتمادها على اللاعبين الأجانب وتنويع اقتصادها، مما يعزز موقعها على الساحة العالمية.
– البيانات: التحكم في بياناتنا أمر أساسي. وهذا يعني ليس فقط حمايتها ولكن أيضًا تقديرها، مع التأكد من أنها تخدم في المقام الأول المصالح الوطنية.
– الأمان السيبراني: في عالم تتواجد فيه التهديدات بشكل دائم، يعد ضمان أمان أنظمتنا وبياناتنا أولوية. وهذا يتطلب استثمارات مستمرة ومراقبة دائمة.
– تنظيم المساحة الرقمية: للتنقل في هذا المجال المعقد، تحتاج إلى تنظيمات واضحة وقوية. يجب أن تحمي المواطنين مع تشجيع الابتكار.
– الموارد البشرية وتطوير المهارات الرقمية: الأمة ذات السيادة الرقمية تحتاج إلى قوة عمل ماهرة. وهذا ينطوي على تدريب مواطنينا على المهارات الرقمية للغد وتحضيرهم ليكونوا الفاعلين في هذا التحول.
– التعاون الدولي: على الرغم من أن السيادة الرقمية تعني نوعًا معينًا من الاستقلالية، إلا أن التعاون الدولي لا يزال أمرًا أساسيًا. العمل مع الدول الأخرى يمكن أن يعزز موقعنا مع مشاركة أفضل الممارسات.
الـخـتـام
إن التحويل الرقمي الذي يتجاوز بكثير مجرد تطور تكنولوجي، هو تحول عميق يؤثر على ثقافة وهيكل ومستقبل البلاد. أمام هذا التغيير، اختارت الجزائر إنشاء هياكل متعددة لقيادة هذا الانتقال. ومع ذلك، فإن إنشاء وكالة وثلاث وزارات، والآن المفوضية العليا للتحويل الرقمي، جميعها بمهام متشابهة أو مترابطة بشدة، يثير تساؤلات مشروعة. هل من الفعال حقًا تكثيف الهياكل لمواجهة تحديات التحويل الرقمي؟ أليس هناك خطر تخفيف المسؤوليات، أو الجهود المكررة، أو ما هو أسوأ، المبادرات المتناقضة؟، كما لا يمكن إنكار أن المفوضية العليا للتحويل الرقمي قد تضيف قيمة، خاصة من حيث التنسيق والرؤية الاستراتيجية. ومع ذلك، من الضروري التأكد من أن هذه الكيان الجديد لا يصبح مجرد طبقة بيروقراطية أخرى، ولكن بدلاً من ذلك يكون محفزًا فعالًا للتحويل الرقمي للبلاد. إنّ الرغبة في الابتكار والتقدم في الجزائر لا يمكن إنكارها، ولكن مفتاح النجاح يكمن في قدرة البلاد على التنسيق بفعالية بين هذه الكيانات لتجنب مخاطر الإفراط المؤسسي وضمان تحويل رقمي متسق وفعال.
بقلم: الدكتور.علي كحلان