
تراجع الويب المفتوح.. في مشهد يعكس تعقيد العلاقة بين شركات التقنية العملاقة والفضاء الرقمي الحر، ظهرت مؤشرات جديدة على تراجع حركة الزوار في شبكة الإنترنت المفتوحة، إذ أقرت شركة جوجل ضمن وثائق قضائية بأن الشبكة تشهد انخفاضًا متسارعًا في حجم التصفح والزيارات، وهو ما يتناقض مع تصريحاتها السابقة التي كانت تؤكد ازدهار الإنترنت واستقراره، ويأتي هذا الاعتراف في وقت تواجه فيه الشركة واحدة من أعنف المواجهات القانونية مع وزارة العدل الأمريكية التي تتهمها بالهيمنة على سوق الإعلانات الرقمية.
صراع قضائي يكشف خبايا السوق
المعركة القانونية الدائرة بين غوغل ووزارة العدل لم تعد تقتصر على بنود المنافسة في سوق الإعلانات، بل أصبحت نافذة تطل على واقع الويب المفتوح وتحدياته، فبينما تتمسك الشركة بأن أي محاولة لتفكيك نشاطها الإعلاني سيؤدي إلى تفاقم تراجع الإنترنت المفتوح، تؤكد الوزارة أن وجود لاعب واحد مهيمن يحرم المنافسة من النمو ويضعف قدرة الناشرين المستقلين على البقاء، وهذا الصراع يكشف أن مستقبل الشبكة لم يعد مجرد قضية تقنية بل أصبح قضية اقتصادية وسياسية في آن واحد.
ويُظهر الاعتراف الأخير للشركة أنها على دراية بانخفاض الزيارات إلى المواقع المستقلة بعد تغييرات متكررة في خوارزميات البحث، وهو ما انعكس على قدرة هذه المواقع في الحفاظ على جمهورها ومصادر دخلها، ورغم محاولات غوغل الدفاع عن نفسها عبر الترويج لفكرة أنها ما زالت ترسل مليارات الزيارات يوميًا، فإن واقع السوق يكشف صورة مختلفة تعاني فيها مواقع عديدة من تقلص جمهورها بصورة غير مسبوقة.
الذكاء الاصطناعي يغيّر مسارات التصفح
من أبرز أسباب هذا التراجع صعود أدوات البحث المدعومة بالذكاء الاصطناعي، التي توفر للمستخدم ملخصات فورية تغنيه عن زيارة المواقع بشكل مباشر، وهو ما جعل كثيرًا من القراء يكتفون بالمعلومات الجاهزة التي تظهر على صفحة النتائج، فتقلصت فرص الناشرين في جذب الزيارات، وتراجعت بالتالي عائداتهم الإعلانية، وهذا التحول لم يكن متوقعًا بنحو سريع لكنه أصبح اليوم واقعًا ملموسًا يهدد نموذج الويب التقليدي.
ومع استمرار غوغل في دمج خصائص الذكاء الاصطناعي ضمن محركها، يتساءل مراقبون حول ما إذا كان الويب المفتوح قادرًا على الصمود، إذ يرى بعضهم أن المستقبل قد يشهد سيطرة أكبر للمنصات المركزية التي تختصر المعلومات وتتحكم في تدفقها، بينما يتضاءل حضور المواقع المستقلة التي كانت تمثل في السابق العمود الفقري للإنترنت الحر، ويذهب آخرون إلى أن هذا التحول سيخلق بيئة أكثر هشاشة تضع المستخدم أمام محتوى أقل تنوعًا وأكثر خضوعًا لهيمنة الشركات الكبرى.
ويبرز هنا التناقض الواضح في تصريحات الشركة، ففي حين أكد رئيسها التنفيذي أن البحث المعزز بالذكاء الاصطناعي وسّع دائرة الإحالات إلى مصادر جديدة، تشير الشهادة القضائية إلى عكس ذلك تمامًا، وهو ما يعكس أن التحدي لم يعد فقط في طبيعة التقنية بل في صدقية الرواية التي تروّجها الشركة أمام الرأي العام.
مصير المواقع المستقلة بين الانكماش والاختفاء
الواقع الجديد يضع المواقع الصغيرة والمتوسطة أمام تحديات وجودية، فهي تعتمد أساسًا على حركة الزيارات القادمة من محركات البحث لتأمين عوائدها، ومع تراجع هذه الزيارات تقل فرصها في الاستمرار، مما يهدد بانكماشها وربما خروجها النهائي من السوق، وهو ما يعني أن الإنترنت قد يتجه نحو نموذج مركزي تتحكم فيه منصات قليلة، على حساب التنوع الذي ميّز الشبكة منذ نشأتها.
ويشير خبراء الإعلام الرقمي إلى أن هذه الظاهرة قد تؤدي إلى خسارة قيم جوهرية في الإنترنت، مثل التعددية في الأصوات وتكافؤ الفرص بين الناشرين، إذ إن تراجع المواقع المستقلة سيجعل المجال مفتوحًا أمام الشركات العملاقة لترسيخ هيمنتها، ومن ثم فرض رؤيتها الخاصة على تدفق المعلومات والمعرفة، وهو ما قد يؤثر سلبًا في حرية التعبير وفي جودة المحتوى الذي يصل إلى المستخدم العادي.
إن اعتراف غوغل بتراجع الويب المفتوح يكشف عن واقع لم يعد خافيًا على المتابعين، واقع تتراجع فيه حركة التصفح لصالح أدوات الذكاء الاصطناعي، ويواجه فيه الناشرون صعوبات غير مسبوقة في الحفاظ على جمهورهم، وإذا لم يتم إيجاد حلول تعيد التوازن بين منصات البحث والمواقع المستقلة، فقد نشهد مستقبلًا تهيمن فيه منصات مركزية على فضاء الإنترنت بأسره، لتتراجع معه الفكرة الأساسية التي قام عليها الويب وهي الانفتاح والتعددية والحرية.
ياقوت زهرة القدس بن عبد الله