
بعد أكثر من نصف قرن على رحيله، وعشرات الكتب والدراسات التي تناولت أعماله، ما زال إرث “طه حسين” الثقافي وإنتاجه المتنوع موضع بحث وتنقيب وإعادة اكتشاف، فقد صدر حديثا عن دار إشراقة بالقاهرة، كتاب “خطب طه حسين المجهولة”، للروائي المصري “سامح الجباس”، الذي تجشم عناء جمع وتصنيف هذه الخطب الشفاهية التي ألقاها عميد الأدب العربي في فعاليات ثقافية مختلفة، ونشرها في كتاب لأول مرة. كان العميد ضيفا دائما في كثير من المناسبات الثقافية والسياسية، وألقى فيها خطبا لا تقل جمالا أو أهمية عن مقالاته المنشورة.
لم تجمع هذه الخطب في كتاب أثناء حياته، ولم يهتم أحد ممن كتبوا عنه طوال السنين الماضية بالبحث عنها، أو ربما لا يعرف أحد بوجودها، وهو ما يشي بحجم المجهود الذي بذله الجباس في جمع هذه الخطب المجهولة بعد زمن طويل من إلقائها. وفي مقدمته للكتاب يقول الجباس:” وأقرّ أنني لاقيت صعوبات كثيرة، وعوائق متعددة، فإن تبحث في عام 2025 عن خطبة ألقاها الدكتور “طه حسين” منذ 97 عاماً، مثل خطبته في تأبين السياسي “عبد الخالق ثروت” عام 1928، فإنك تقوم بمهمة عالم الآثار الذي يبحث عن مقابر فرعونية مجهولة المكان وسط صحراء لا حدود لها، ولكن قيمة الهدف الذي أسعى إليه، وقيمة إعادة الحياة لهذه الخطب كان يستحق ما بذلته من مجهود وتعب للحصول عليها”.
يضم الكتاب 20 خطبة، مع تقديم نبذة سريعة عن المناسبة التي ألقيت فيها وسياقها، وتاريخها ومكان إلقائها، ثم نصّ الخطبة، يعقبها تعقيب كتبه الجباس مدونا عددا من الملاحظات عن الخطبة وأهميتها. أما موضوعات تلك الخطب فتتنوع ما بين السياسي والثقافي، وأثار فيها الدكتور “طه حسين” موضوعات ساخنة وسابقة لزمنها، وتناول كثيراً من القضايا التي لا تزال حاضرة حتى الآن، مثل الصعوبات التي تواجه الأدباء وتصيبهم باليأس، وأهمية الشعر، ومكانة اللغة العربية، وضرورة تبسيطها، مستشرفاً الخطر القادم على اللغة العربية ومستقبلها، محذراً من هوان اللغة العربية على الناس.
ينقسم الكتاب إلى 3 أقسام؛ الأول يضم الخطب التي ألقاها في محافل ثقافية داخل مصر، وهذا القسم يتكون من 13 خطبة، منها خطاب العميد إلى وزير المعارف العمومية “محمد حسنين هيكل باشا”، سنة 1938، بشأن الدعوة لتيسير النحو وإصلاح الكتابة مع النهضة الحديثة. كما يضم كلمته في جلسة افتتاح مؤتمر مجمع اللغة العربية الذي انعقد في صباح السبت 4 جانفي 1948، وكانت بعنوان “فن من الشعر يتطور بأعين الناس”.
وكذا الخطبة التي ألقاها في حفل مجمع اللغة العربية في 26 يناير عام 1950، لاستقبال الكاتب “محمود تيمور”، بعد صدور المرسوم الملكي بتعيينه عضوا، وكان العميد آنذاك وزيرا للمعارف إلى جانب عضويته بالمجمع. كما يضم خطابه في الجلسة العلنية التي عقدها المجمع في 8 ماي 1954 لاستقبال الزميل الجديد “محمد توفيق دياب”.
ويضم هذا القسم أيضا كلمته التي ألقاها بصفته الرسمية وزيرا للمعارف، في الخميس 22 نوفمبر سنة 1951 بمناسبة احتفال الوزارة بحصول زعيم إيران “محمد مصدق” على الدكتوراه الفخرية في القانون من جامعة “فؤاد الأول” (جامعة القاهرة حاليا، وكانت الوزارة تشرف عليها آنذاك). وكذلك كلمته التي ألقاها في الاتحاد الثقافي في جانفي 1953، وكانت بعنوان (جناية العصر الحديث على الأديب)، وهي الكلمة نفسها التي سبق أن ألقاها في مؤتمر الفنانين الذي انعقد في البندقية بإيطاليا تحت رعاية اليونسكو سنة 1952، ثم عندما عاد إلى مصر أعاد إلقاءها مختصرة في نادي الاتحاد الأدبي، حسبما يوضح الجباس في تعقيبه عليها. وضمن هذا القسم أيضا، كلمته في الدورة الثالثة من مؤتمر الأدباء العرب الذي انعقد في القاهرة في الفترة من 9 إلى 15 ديسمبر 1957، بعنوان (الأدب والقومية العربية). وهناك أيضا كلمته في مؤتمر تضامن الشعوب الإفريقية الآسيوية، الذي انعقد في القاهرة في الفترة من 26 ديسمبر 1957 إلى الأول من جانفي 1958.
ومن الخطب الطريفة في هذا القسم، خطبته في الجلسة التي عقدها مجمع اللغة العربية في 17 ماي 1954 لاستقبال الكاتب “توفيق الحكيم”، بمناسبة تعيينه عضوا عاملا في المجمع، وفيها يقول مخاطبا الحكيم ومداعبا له:” أنت تتكلف من الخصال ما ليس فيك، أنت جوّاد وتزعم أنك بخيل، وأنت ماهر ماكر، ومداور ومناور، وتزعم مع ذلك أنك ساذج لا تفرق بين ما ينفع وما يضر. وأنت صاحب جد في حياتك، وصاحب جدٍ منتج، وقد ألقيت في روع الناس أنك لا تحسن إلا العبث والدعابة. وكذلك صورت نفسك للناس بصورة ليس بينها وبين الحق من أمرك صلة، فخير أسلوب يمكن أن يتبع في تقديمك إلى المجمع هو هذا الأسلوب الذي قدم به الجاحظ خصمه “أحمد بن عبد الوهاب”. ولكنك لست خصمي، فلأصطنع شيئا من الجد الذي يليق بهذا المجمع”.
أما القسم الثاني، فيحوي الخطب التي ألقاها العميد في عدد من الدول العربية في مناسبات ثقافية مختلفة، ويبدأ بالخطاب الذي ألقاه بوصفه رئيس اللجنة الثقافية لجامعة الدول العربية، في حفل الأساتذة المصريين بمكة في المملكة العربية السعودية في 15 جانفي 1955، بحضور وزير المعارف السعودي ـ وقتها ـ الأمير “فهد بن عبد العزيز” (الملك فهد، فيما بعد). ويضم هذا القسم أيضا محاضرته التي ألقاها في مؤتمر عنوانه (لمن يكتب الأديب… للخاصة أم للعامة؟)، الذي عقدته كلية المقاصد الإسلامية ببيروت في عام 1955. كما يضم كلمته في افتتاح المؤتمر الأول للمجامع اللغوية العربية في دمشق، الذي انعقد في الفترة من 29 سبتمبر إلى 5 أكتوبر 1956، بحضور الرئيس السوري آنذاك “شكري القوتلي”، إضافة إلى خطب أخرى ألقاها في لبنان وتونس.
القسم الثالث يخصصه “الجباس” لردود عميد الأدب العربي على القضايا الثقافية التي طرحتها عليه بعض المجلات والصحف، ضمن مجموعات من المفكرين استطلعت آراءهم في هذه القضايا، فكان يرد عليها ردودا مكتوبة، أشبه بآراء في تحقيقات صحافية، ومنها ردّه على ما طرحته عليه مجلة الهلال عن موضوع بعنوان (نهضة الشرق العربي وموقفه إزاء المدنية الغربية)، وفي هذا الخطاب يشير إلى إفادة مصر وبلاد الشام من الحضارة الغربية، لكن بطريقتين مختلفتين، ويقول:” في العلم، يجب أن نندفع في الطريق العلمية الغربية اندفاعاً لا حدّ له إلا مقدرتنا الخاصة، لأن العلم قد أصبح غربياً خالصاً، وليس لنا فيه نصيب قومي. وعلى العكس من ذلك، في الفن والأدب والحياة الاجتماعية، فلنا فنوننا وآدابنا ونظامنا الاجتماعي. وواجبنا هو أن نحتفظ بشخصيتنا قوية واضحة في هذه الأشياء، وألا نقتبس من أدب الغرب وفنّه ونظامه الاجتماعي إلا ما يمكّن شخصيتنا من أن تنمو وتتطور وتحتفظ بما بينها وبين العالم المتحضر من الاتصال”.