
في ظل التطور الرهيب في وسائل التواصل والإعلام، أصبح الفرد يستبق الزمن ويحاول تحدي التقدم التكنولوجي والرقمي من أجل البقاء في الساحة، على غرار مجال الفن الذي بدأ يشهد تراجعا في الإنتاج العادي التقليدي، بعدما بدأ ما يعرف بصناع المحتوى (المؤثرين)، الذين طغوا على الساحة الفنية، واقتنصوا أدوار الممثلين خريجي المعاهد الفنية.
وفي وقت غابت القضية الفلسطينية التي تشغل العالم بالمجازر التي تشهدها عن الإنتاج العربي، خاصة خلال شهر رمضان. وللغوص أكثر في الموضوع، تواصلت جريدة “البديـل” مع الفنان والمخرج الأردني “نائل أبوعياش”، وكان هذا الحوار:
تزامن رمضان هذه السنة مع التطورات الخطيرة التي يشهدها الشرق الأوسط، لاسيما حالة التقتيل والدمار الذي يمارسه الكيان الصهيوني في حق الأبرياء الفلسطينيين، هل كانت هناك إنتاجات فنية داعمة للقضية الفلسطينية؟
للأسف، لم أتابع أي عمل تلفزيوني يتحدث عن القضية الفلسطينية ولا الأوضاع الراهنة في قطاع غزة المحاصر، والذي يتعرض حاليا لما بات واضحا أنه جريمة إبادة جماعية يقودها الكيان الصهيوني القائم، والمدعوم من قبل قيادات عالمية، وكأن هذا الأمر غير موجود أصلا أو أنه يحدث في منطقة جغرافية، ما عادت تعني صناع القرار الإنتاجي العربي وبكل أسف، على الرغم من أن الموقف الشعبي العربي موقف مؤيد ومتعاطف مع القضية الفلسطينية، والتي تمثل له القضية الأولى على الأجندة الخاصة بنا كشعوب.
يعتبر الإنتاج الفني والثقافي سلاحا مهما، حتى أنه يسمى “الاستعمار الناعم”، لماذا تشهد الساحة العربية تراجعا في الإنتاجات التي تعالج الوضع الحالي وتقتصر أو تهتم بإنتاجات تاريخية قليلة جدا والتركيز أكثر على المواضيع الكوميدية؟
هذا الوضع القائم على التطور التكنولوجي المتسارع غزا سوق الدراما بشكل عام، في السوشيال ميديا التي أنتجها العالم الرقمي والفضاء الإلكتروني باتت تنقل أسرع من القنوات التلفزيونية، مما أدى بالإنتاج إلى الاستعانة بصناع المحتوى على الإنترنت وإلحاقهم بأعمال كوميدية، تسعى للأسف للحصول على اللايكات في السوق الإلكترونية على حساب الذوق العام، فالإعلام الرقمي ساهم في ضعف الأعمال التلفزيونية المقدمة من ناحية الخبرة، بسبب المحتوى في طبيعة الأداء التلفزيوني والذي يؤدي إلى ضعف العمادة المقدمة وعدم صلاحيتها لدي المشاهد.
أما الأعمال التاريخية، فلم يعد مرغوبا بها لدى صناع القرار الإنتاجي الدرامي، بحجة عدم جذبها المكاسب العالية، كما أن من أسباب غيابها ضعف الإنتاجات ماديا، إذ إن العمل التاريخي ذو كلفة إنتاجية عالية جدا، إذا ما قورن بالعمل الدرامي الحديث، ولا ننسى أنه من أهم الأسباب هو غياب صناع الدراما من مخرجين مثقفين وواعين بالرسائل المطروحة في مثل هذه الأعمال، كالراحلين “حاتم علي وشوقي الماجري”، الذين كان الجلوس معهما والاستماع لهما متعة تثقيفية عالية، فغياب المخرج المثقف من العمل الدرامي عامة والتاريخي خاصة يؤدي بالنهاية إلى عمل ذو قيمة هزيلة وبناء ضعيف.
السنوات الأخيرة تشهد الإنتاجات الثقافية والفنية التركية اكتساحا واسعا للعالم العربي، وقد أثر ذلك على المجتمع العربي، فأصبحت سجلات المواليد الجدد بأسماء الفنانين أو الشخصيات في المسلسلات التركية، كيف يمكن مواجهة هذا التأثير الذي يعتبر مزعجا أو مهددا للثقافة العربية؟
في البداية علينا معرفة أسباب توجه المشاهد العربي نحو المسلسل التركي، وبكل بساطة نجد أن من أهم الأسباب هو التكلفة الإنتاجية الضخمة التي تخرج أبطال العمل بمواصفات شبه عالية وجميلة، والسبب في ذلك يعود إلى تراجع جهات الإنتاج العربي، وكذلك تركيز الجهات الإنتاجية التركية التي تحمل هدفا تسويقيا مقابل ما بات يعرف بثقافة التسويق للبيئة الجغرافية والسياحية بشكل جميل وممتع، وخلق صورة بصرية للمشاهد والتركيز على الجانب الرومانسي.
كما أنه من الواضح للجميع أن بعض الأعمال الدرامية التاريخية التركية تحمل الخطاب الشعبي السياسي والثقافي لدى الدولة التركية، والموجهة بعناية لمخاطبة العقول العربية، كما تركز على التسويق على حقب عز وفخر نحن في أوج الحاجة إليها، فالمعادلة بسيطة خطاب سیاسي واضح، زائد نص متين وصناعة محكمة وبإمكانيات إنتاجية ضخمة ومفتوحة.
يشهد العالم العربي تحولا خاصا في الإنتاج الفني والثقافي خلال شهر رمضان المعظم، كيف كان الإنتاج العربي خلال شهر رمضان الفائت؟
في الماضي كان الإنتاج التلفزيوني المخصص لشهر رمضان المبارك يحمل طابعا دينيا، ثقافيا وعائليا، بحكم أن الهدف لهذه المادة المقدمة هي الأسرة كاملة، حيث كان على العمل حمل معاني ومضامين هذا الشهر الكريم، من قيم وأخلاقيات تزيد من الوعي الثقافي والديني والقيمي، في وقت كانت برامج الأطفال منشغلة بتغذية الجانب الروحاني والتعليمي والتثقيفي لهذا الشهر، من قصص تحاكي التراث الفني بلحم البطولة والإيثار والكرم والأخلاق الحميدة، وكانت لدينا دراما محكمة الصناعة والحبكة والتحدث عن هموم الأسرة والعائلة والوطن كذلك.
إذ إن هذه التعاليم مجتمعة كانت الأولوية ضمن ما يعرض على القنوات العامة في الوطن العربي، حيث كان شعارها حينذاك “وطن عربي واحد من الخليج إلى المحيط”، كما كان واجب على القنوات وضع برنامج مسابقات تحضّ على المعرفة ومبنية على المعلومة والقيمة الأخلاقية البناءة وأن لابد من عمل كوميدي يحمل النكتة الحقيقية لا التهريج، كما كان لا يسمح التفوه بالألفاظ النابية احتراما لذائقة السامع، وظلت سوق الدراما العربية في رمضان تنتج في مجملها من عملين إلى أربعة أعمال كحد أقصى، مما يساهم في توحيد المادة المقدمة، والتي بالتبعية تجعل المتابع في كافة أرجاء الوطن العربي يتابعون ذات العمل وفي ذات الفترة.
ما هي الأسباب التي جعلت الإنتاجات العربية الهادفة تتراجع بشكل كبير مقارنة بالسنوات الماضية (تصحر في مجال الإخراج أم انعدام كتاب سيناريو متمكنين أم فقدان وغياب المادة)؟
التصحر يبدأ أولا وأخيرا من وعند وعلى عاتق الجهات الراعية للإنتاج، فمن بيده المال هو الذي يحدد ما يقدم وما يعرض وما ينتج ليشاهده الجميع، في الوقت الحالي صناع الإنتاج يتضاءلون فيما يعرض على الشاشة العربية. وبناء على ذلك، أصبحت الأعمال العربية خالية من المضمون والهدف، وبدأ بظهور ما يعرف بصناعة نجوم وهميين لا يملكون أدنى مستويات الأداء أو الحضور، يفتقرون إلى مقومات النجومية، إلا أن علاقاتهم بصناع القرار وثيقة وقوية، فيفرضون فرضاً على القنوات وشركات الإنتاج، لكن هذا لا يعني أنه ليس لدينا من بينهم من يصنف كنجم بمقومات عالمية رغم قلّتهم، كما يمكن القول إن الغاية الأساسية لمعاهد الفنون في الفنون ليست الدراسة العلمية، فهي ضرورة الخروج بعمل مدروس فنيا ومتقن الصنع، المشكلة تكمن في القطاع الإنتاجي وما بعد الإنتاج، وأعود لأقول أن احتكار سوق الإنتاج الدرامي في الوقت الحالي مختطف من قبل بعض الجهات الإنتاجية، وبشكل خطير سيؤثر هذا على الذائقة العامة.
الغرب وتحديدا أمريكا في الإنتاج السينمائي ورغم افتقارها إلى شخصيات أو مواضيع ذات تأثير، فقد خلقت من أشخاص وهميين أبطال خارقين، في وقت تعد فيه السينما العربية بتاريخ مزدحم بشخصيات ومواضيع راسخة، إلا أنها فشلت في التسويق السينمائي، ما سبب ذلك؟
هذا الأمر سياسي أكثر منه ثقافي، فالرأسمالية كمشروع وتوجه، استغلت السينما للتسويق لأفكارها ومنتجاتها من خلال صناعة قوية وبوسائل دعم وإنتاج قوية، فحتى الأفكار السخيفة أحيانا تخلق روادها من خلال أساليب الدعاية والتقديم، فالرأسمالية أقنعت العالم أنها النظام الأفضل وراعي الديمقراطية في العالم، وأنها الحل الأمثل في مواجهة الراديكالية الثورية الشيوعية والدينية، بالإضافة إلى جعلها الاشتراكية العدو اللدود لها من خلال تسويق ما يعرف بالحلم الأمريكي والكسب المادي السريع. وللأسف لم نستطع كعرب من صناعة ما يقارب هموم وخيال واحتياجات مواطننا العربي ولا حتى ما يعبر عن واقعه.
ما الذي جعل الدراما المصرية والسورية تتراجعان؟
من أسباب تراجع الدراما العربية المصرية والسورية هو للأسف الانحراف والانجراف المفرط نحو ما بات يعرف بالتسويق من خلال النجم الأوحد، وبالتحديد الأعمال الموجه عبر القنوات الفضائية، والتي لا تحمل قيمة فنية عالية، بالإضافة إلى إقحام بعض الأعمال لمشاهد الإغراء مثلا، ليصبح مرغوبا، مما يسهم بالتبعية بانخفاض القيمة الفنية بالمجمل، كما لاحظنا غياب الدراما السياسية والتي تخاطب وعي المتلقي بكل حياد لا إظهار وجهة نظر أحادية القطب والشكل.
لماذا أصبح الجمهور العربي يتجه إلى الإنتاج الفني الغربي؟
الجمهور العربي جمهور ذواق لواقع المعرفة والموروث بسبب تاريخه، هذا الجمهور يتجه ناحية الإنتاج الغربي بسبب الأعمال العربية التي لا تحاكي واقعه وتحمل في طياتها بناء دراميا هشا وكاذبا بالنسبة له، فيتوجه نحو الغرب بسبب الحبكة ومتانة الصناعة الغربية في السرد القصصي، الذي أصبح أفضل بكثير مما لدينا في العالم العربي، بالرغم من أننا أصحاب اللغة العربية الجميلة وأهل القرآن وأصحاب مهنة الحكواتي والراوي، إلا أننا لا زلنا لا نعرف كيف نقدم الحكاية مكتملة العناصر، مما دعا بالمشاهد العربي للنفور من الأعمال التي لا يرى فيها الصدق والحقيقة في الصناعة ، وبالتبعية يتابع المشاهد ما يصدقه ويشبهه لا ما يختلف عنه کإنسان ولا يصدقه.
كيف نعيد للثقافة العربية بريقها؟
هناك مثل فلسطيني أو حكاية فلسطينية جميلة أمرّ بها وأحبها، وهي برأيي مفتاح حل لهذه المعضلة، “يحكى أن طفلاً صغيرا جلس بجوار جده العجوز وسأله: يا جدي متى ستتحرر فلسطين؟ فقال له جده: حين نعود ونصنع طعامنا بزيت زيتون بلادنا يا ولدي”، إذا ما أسقطناه على حكاياتنا وأعمالنا الدرامية والفنية وطرحنا مشاكل واقعنا بكل شفافية سيعود اهتمام المشاهد بما يعرض له.
ما هي كلمتكم الختامية؟
أتمنى أن نعود إلى ذلك الزمن الأصيل، الذي عشقته طفلا حين كانت القنوات الوطنية المحلية تساهم في تربيتنا وتساهم في تعليمنا القيم والمبادئ والأخلاق، والعودة إلى الاهتمام بالمسرح والدراما التلفزيونية والمنتجات الثقافية، كما أتمنى الخروج من زمن السوشيل ميديا والعودة إلى الإنتاجات الدرامية الحقيقية.
من هو نائل أبو عياش؟
ممثل ومخرج وكاتب سيناريو، عضو نقابة الفنانين الأردنيين – خريج معهد الفنون الأردني 1998.
شارك في أعمال مسرحية منها الذباب – ميديا – ملهاة عازف الكمان – پس بقرش، إلى جانب أعمال تلفزيونية، منها مدرسة الروابي البنات الموسم الثاني – دفاتر الطوفان – أبو جعفر المنصور – مالك بن الريب – شارع طلال. العمل على تأليف مجموعة أفلام قصيرة منها سلسة الواقع المرفوض الجزئين الأول والثاني، كما ساهم كممثل في بعض الأعمال السينمائية، منها أن شا الله ولد – خوف – موقف. العمل مخرج ومؤلف لأعمال سينمائية قصيرة منها كومبارس – شرف – شوب.
حاورته: ميمي قلان