
كان الصالون الجزائر الدولي للكتاب، مناسبة لرواج الكتب التاريخية من خلال مجموعة من إصدارات متنوعة جديدة عرضها الناشرون الجزائريون، حيث صدر حديثا كتاب جديد عن دار النشر القدس العربي بعنوان ” القبيلة والطريقة في الجزائر العثمانية توزيع السلطة وتقسيم المجال ” للدكتور مكحلي محمد.
والذي رّكز في كتابه هذا على دراسة ظاهرتين اجتماعيتين وثقافيتين بصمتا التاريخ الاجتماعي والثقافي للمنطقة المغاربية منذ زمن طويل وعلى امتداد الفترة العثمانية، هما “الطريقة” و”القبيلة”، كما كانت المفاهيم الثنائية في المجال والبيئة، والصراع والاندماج، والانصهار والانشطار، والهامشية والمركزية، وغيرها من المفاهيم السوسيولوجية، خير معين للكاتب على فهم الظواهر وتفرعاتها وتحليل الإشكاليات وامتداداتها.
فثمة حسب المؤلف علاقة وشيجة ما بين الظاهرة الروحية “الطريقة – الزاوية” والظاهرة الاجتماعية “القبيلة – العشيرة”، وثمة أيضا تفاعلات عميقة لا نستطيع إهمالها قي تحليلنا لأية حركة أو ظاهرة سياسية وثقافية تاريخية بالمنطقة.
إذ لقوة حضور هذه المكونات شواهد عديدة لطالما طبعت التاريخ الاجتماعي للجزائر المعاصرة، وهو ما يشكل أحد مكونات الهوية والذات في ظل محاولات الاحتلال الأولى في علاقة بالاستقلالية النسبية للجهات الداخلية وبالسلطة المركزية من جهة وفي علاقتها بالمجال المحلي الذي لم يكن البتة مجرد فضاء جغرافي منفعل بل كان على مر التاريخ فاعلا ومشاركا في التفاعل مع مكونات الهوية الوطنية والحضارية للجزائر من جهة ثانية، وهو حال متشابه في المغرب الأوسط مع ما حصل بالمغرب الأدنى و بالمغرب الأقصى ” على نسبته و مقدار عمرانه ” –حسب عبارة العلامة ابن خلدون-.
لقد توغل الكاتب وساح كما في سياحة شيوخ الزوايا و الطرق وتنقلات القبائل و ثوراتها في الأطراف بكل المعاني البحثية: في دراسة المجال وفي العلاقة الجدلية بين السلطة المركزية والسلطة المحلية، كان توغلا محكوما بمدى قدرته على توظيف المادة التاريخية الدراسية والوثائقية المتوفرة والمتعلقة بالثلاثة قرون الماضية، وفي مراوحته بين المرجعيات التاريخية الوسيطة المتنوعة والمرجعيات السوسيولوجية والأنثربولوجية الحديثة التي استفاد من مناهجها و مقارباتها.
كما بيّن المؤلف الدكتور مكحلي محمد في كتابه هذا أن هذه العلاقة بين المتحكمين في المجال كانت مبنية على التنافس والهيمنة وعلى احتكار النفوذ في فضاء شاسع متنوع، صراع بين السلطة و التنظيمات الاجتماعية ممثلة في القبائل و الطرق في مختلف الأدوار التي لعبتها هذه التكوينات و التنظيمات في عمليات تأسيس القرى و المدن و خاصة في العملية التاريخية التي رسم ملامحها العلمية ابن خلدون و هي عملية تحويل البداوة إلى حضارة عن طريق ما يسميه علماء اجتماع الريف اليوم بتحويل البداوة إلى “الريفانية ثم إلى مجتمعات فلاحية موسومة بالاستقرار و التحضر.
في هذا السياق، حاول الكاتب الإجابة عن عدة أسئلة هامة و جوهرية في سياق النقاش العلمي في التاريخ الاجتماعي المغاربي عامة و الجزائري بشكل خاص – باعتباره نموذجا مثاليا و منها الكشف عن خلفيات الطرح العقدي للطرق الصوفية -رفضا أو قبولا-، و منها مدى استناد الطريقة على القبيلة كسند اجتماعي ” شعبي ” لتبرير توسعها، ومنها الاستراتيجيات التي تتبعها السلطة المركزية باعتبارها تحتكر السلطة الدينية الرسمية في تعاملها مع انتشار النشاط الطرقي و توسعه خاصة حينما كان يستمد مرجعيته من أقصى المشرق أو أقصى المغرب يما أدى إلى ظهور ما يشبه حركات اجتماعية أو حتى أحزابا ذات لبوس ديني، في ظل تضارب المصالح و تداخل الصلاحيات، وهو ما برز في تحول العديد من الطرق في بلدان المغرب العربي الى حواضن سياسية لمقاومة الاحتلال بل و تحولها إلى خلفية للعديد من الأحزاب المدنية الوطنية لاحقا.
يبّين الكاتب مدى أهمية تنبه الدارسين إلى مسألة تقسيم العمل أي تقسيم الأدوار بين السلطة المركزية التي تحتكر النفوذ عن طريق الجباية و بين السلطة المحلية في الدواخل التي تتحكم فيها القبائل و الطرق في تكامل أو تحالف مع نوع من الاستقلال النسبي للجهات في إدارة الشؤون المحلية مقابل توزيع غير عادل للمكافآت و الهدايا و ” الاقتطاعات” و عمليات التحويز و الإعفاءات الموزعة حسب اتفاقات ضمنية تحكمها تقاليد علاقة المجموعات المحلية بالسلطة المركزية ممثلة في الأتراك بين تابعة و صديقة و أخرى متمردة و معارضة ثائرة.
كأني بالكاتب يدعو إلى عدم إهمال الباحثين للعديد من الكتابات رغم الطابع الهاوي والذاتي فيها لما تحتوي عليه كتابات الهواة حول المحلي من معطيات قد تفيد الباحثين في حقول بحثية ضنينة المراجع، لكننا نعتقد رغم وجاهة ذلك التماشي أننا بحاجة إلى إجراء نقد بيبلوغرافي لتلك المادة بسبب ما يتسرب إليها في كثير من الأحيان من الضعف بسبب قلة ذات اليد المنهجية و العلمية لدى أصحابها.
إن كتاب الأستاذ مكحلي حول الطريقة والقبيلة يجيء في سياق مرحلة هامة من البحث العلمي الجامعي الرصين في المنطقة، بدأ يغطي مواضيع المجتمع العميق و المهمش أو المتعالى عليه، برؤية مغايرة و مختلفة عن الرؤية التابعة، تبعيات متعددة، تصل حد الوقوع أحيانا كثيرة في الأدلجة.
لقد حان الوقت للقول، أن الإنتاج العلمي من ضمن المدرسة المغاربية الوطنية بدأ يبين عن تراكم مفيد وتأسيس جديد لتوجه يقوده الواقع و لا تقوده الأفكار المسقطة التي كثيرا ما كانت ولا تزال تتسرب عبر النظريات والمفاهيم المسقطة، ولعلنا بهذا التوجه سنتمكن من التوصل مع المكحلي إلى أطروحات علمية عميقة ورصينة حول الواقع المجتمعي في تاريخيته الحقيقية.
لقد تمكن الأستاذ مكحلي من لملمة أطراف موضوع شائك و صعب فحلل أبعاده و اكتسح خباياه مستعملا شتى المعارف الإنسانية المتوفرة لمقاربة ظاهرتي القبيلة و الطريقة، ومما زاد من جدية هذا العمل ثراء مرجعيته النظرية والميدانية وهو ما تشهد به القائمة الببلوغرافية و الملاحق المفيدة و الطريفة التي يتبين لنا أنها كانت نتيجة بحث ميداني معمق و صلة للباحث بمجال بحثه وثيقة، فضلا عن الأسلوب المبسط والهادف في التأليف وفي لغة الكتابة معتقدين أن هذا الكتاب سوف يكون إضافة علمية معتبرة لحقل العلوم التاريخية و السوسيولوجية ليس بالجزائر فقط بل بكل أقطارنا المغاربية وللمكتبة العربية عامة.
للإشارة، أن الدكتور مكحلي محمد استاذ بكلية العلوم الانسانية بجامعة الجيلالي ليابس بسيدي بلعباس مدير مختبر الفكر الاسلامي بالجزائر مهتم بالتاريخ الاجتماعي و الثقافي للجزائر و اصدر العديد من الكتب منها اعلام الفن البدوي في الجزائر.
مبسوط. ف