
– يتحدّون الظروف الصعبة بالبحث عن عـمل
– يمتهنون التجارة الموسمية وجمع البلاستيك
تعـجّ أسواق الخضر والفواكه المنتشرة عبر الأحياء الشعبية والسوق المغطاة لمدينة مغنية بصغار أعمارهم دون العاشرة تجدهم إما يبيعون خبز المنزل (المطلوع) أمام مداخل الأسواق أو يجوبونها وهم يتوسلون المواطنين لكي يبتاعوا منهم أكياسا بلاستيكية، وحتى المطاعم والمحلات التجارية لا تخلوا من أطفال استغل أباؤهم العطلة الصيفية لزجهم في العمل من أجل الحصول على دنانير لإشباع البطون الجائعة لأفراد عائلاتهم المعوزة أو لحملهم على التكفل بنفقات الدخول المدرسي بحثّهم على الاعـتماد على سواعدهم النحيلة، لذلك فالأطفال الصغار لا يترددون في القبول أي من الأعمال حتى الشاقة منها.
وما يساعـد على تنامي هذه الظاهرة لجوء أرباب العمل إلى توظيف الصغار لأنهم يقبلون أي عمل وبأجر ضئيل وأقل مما يطلبه الكبار مثلما هو حال “محمد” الذي يعمل في تفريغ الشاحنات المحملة بالخضر في سوق الجملة، مقابل دنانير فقط لا تعادل ثلث حجم جهده المبذول، إذ يقول “محمد” الذي التقته “البديل” ـ وملامحه تعكس مدى مشقة الأشغال التي يقوم بها يوميا، حيث كان يرتدي لباس محيت ألوانه لتصبغ بلون التراب وعلامات التعب بادية على تعابير وجهه وبصوت حزين، يقول “أنا أعـمل منذ السادسة صباحا إلى غاية ساعة متأخرة من الليل على حسب الشاحنات المحملة بالخضر، حيث لا يتعدى ثمن تفريغ الشاحنة الواحدة 300 دينار بالرغم من مشقة وصعوبة العمل، إلا أني مضطر لتحمل هذا العناء لإعالة عائلتي المكونة من 06 أفراد هم بحاجة إلى الأكل واللباس، فالحاجة إلى المال تدفعني دائما لبذل جهد مضاعف، ففي الكثير من الأحيان أقوم بتفريغ حمولة ثلاث شاحنات مقابل مبلغ زهيد، وأضاف “محمد” بأنه آلف العمل في العطل المدرسية لمساعدة والدته التي تعمل كمنظفة بإحدى المدارس الابتدائية ببلدية مغنية في توفير تكاليف الدخول المدرسي من ملابس وأدوات له ولإخوته الخمسة. فظروف العمل عند الأطفال تختلف من طفل لآخر، حيث هناك عينة أخرى من هذه الشريحة التي تقترض الأموال من أوليائهم من أجل شراء بعض السلع البسيطة التي تتمثل أساسا في السجائر والحلويات وإعادة بيعها على أرصفة الشوارع ومحطات نقل المسافرين، حيث يعجز اللسان أحيانا عن التعبير عندما تشاهد العين بعض السلوكات الناتجة عن الفاقة والبؤس الذي يلف مدينة مغنية.
الشواطئ الأكثر استقطابا لعمالة الأطفال
هي قصص تتكرّر في العديد من العائلات الجزائرية التي دفعتها الظروف الاجتماعية والاقتصادية إلى التضحية بالمستقبل الدراسي لأبنائهم من أجل توفير لقمة العيش، فكثيرة هي الأسر التي تدفع بفلذات كبدها إلى عالم الشغل عـلى الشواطئ في فصل الصيف…وجبات باردة وشاي ساخن ومحاجب وساندويتشات حتى سجائر ومياه معدنية وغيرها من اللوازم والأشياء التي يتفنن الأطفال من مختلف الأعمار في تقديمها للمصطافين على مختلف شواطئ تلمسان كمرسى بن مهيدي وهنين، وشاطئ بيدر بهدف ربح بعض الدنانير لمساعدة العائلة وإدخار بعض النقود تحضيرا للدخول المدرسي ومواجهة مصاريفه الباهظة وما يتطلبه من مستلزمات دراسية من كتب ودفاتر و…غـيرها، إذ معظم الأطفال الذين صادفناهم في جولتنا البحرية عـبر مختلف شواطئ تلمسان يتراوح عمرهم ما بين 8 و16 سنة يؤكدون أن ما يقومون ببيعه من مأكولات هو من تحضير أمهاتهم بالمنزل ويعملون ما يمكنهم لإقناع المصطافين بشراء حوائجهم ولو بأثمان بخيسة لأن المهم هو أن يبيع هذا الطفل وذاك السلع المتواجدة بين يديه ليعود مساء بالقليل من الأموال التي يتم تداول بعضها وإدخار بعضها الآخر لوقت الحاجة وهكذا دواليك.
…”المطلوع” و“التين الشوكي” الأكثر رواجا لدى المصطافين
عـلى الطريق الوطني الرابط بين مغنية إلى باب العسة إلى مرسى بن مهيدي، نفس الواقع ونفس الوجوه…أطفال في عمر الزهور يبيعون المطلوع وبعض أنواع العجائن التقليدية (مسمن الدار، تشيشة…وغيرها) على الطريق وهم عرضة لكل أنواع المخاطر، بداية من حوادث المرور، فقصصهم لاتختلف إلا في بعض التفاصيل، كلهم أطفال وحّدت بينهم قسوة الظروف وغدر الزمن الذي حوّلهم في رمشة عين من أطفال إلى رجال ونساء، على طول الرصيف تصطف سلال الخبز والأطفال ينادون على سلعتهم بحناجر ندية أنهكتها تكرار نفس اللازمة “مطلوع سخون مطلوع سخون”، وقد يستعيضون عن النداء عندما يتعبون بالتلويح بأقراص الخبز التي تباع مقابل 25 أو 50 دج للخبزة الواحدة، تقف “فاطمة” رفقة أخيها الذي يكبرها بسنتين على جانب الطريق الساحلي المؤدّي لشاطئ مرسى بن مهيدي، وهم يعرضون سلعتهم، تقول “فاطمة” إن مدخول اليوم قد يرتفع في أيام العطل يومي السبت والجمعة من موسم الاصطياف، حيث تصبح الشواطئ المجاورة لشاطئ مرسى بن مهيدي، كشاطئ بيدر، وأولاد بن عايد سوقا مربحة وتلقى سلعتهم الرواج والقبول من قبل المصطافين…فقد وحدّتهم المعاناة والمكابدة اليومية من أجل الحصول على 1000 دج في أحسن الأحوال نظير بيع 20 خبزة من التاسعة صباحا إلى الرابعة مساء، وقد يتأخر الوقت إلى حدود الساعة السادسة في أيام نهاية الأسبوع من الصيف…وربّـما كانت قصة حمزة أقل مأساوية من قصة فاطمة وأخيها، فحمزة يعيش في كنف عائلته الحقيقية المتكونة من الأب والأم وخمسة إخوة، لكنه مضطر لبيع الخبز حتى يساعـد الأسرة في توفير المصروف اليومي، خاصة أن مصاريف الدراسة ولوازم الحياة لخمسة أطفال ليست سهلة، لذا يتناوب هو وإخوته عـلى بيع الخبز، ويحصل حمزة على المصروف اليومي من أمه مقابل بيع أقراص الخبز والمحاجب وبعض العجائن التقليدية الأخـرى، أما “حسن” الطفل الآخر الذي لا يتعدى عمره الـ 13 سنة، فإن ما يهمه من موسم الاصطياف ليس زرقة البحر بل عدد المصطافين الذين يتعرف عليهم ويتقدمون إليه بطلباتهم التي يستجيب لها بكل ثقة ومسؤولية، معتبرا أن هذه الفرصة هي الأنسب له ليتمكن من إدخار بعض الأموال لاقتناء لوازم الدراسة والألبسة الجديدة للدخول الدراسي. وفي هذا الصدد، يؤكد العديد من الأطفال ممن احترفوا هذه “المهنة” أن المنافسة شديدة بينهم للظفر بالزبائن، الأمر الذي يتطلب بل يفرض تقديم أحسن الخدمات وأجودها.
يعرضون هذه الفواكه للبيع وبأثمان مختلفة
في نفس السياق وعلى ما يتصل بالموضوع أضحي التين الهندي هو الرزق المناسب أن لم نقل الوحيد للعشرات من الأطفال ببلديات (السواني، سيدي بوجنان، باب العسة، مسيردة، مرسى بن مهيدي…) باختلاف أعمارهم ومن الجنسين العامل الأساسي لتوفير مستلزمات المدخول المدرسي، حيث وقفت “البديل” مع هؤلاء الأطفال وهم يعرضون هذه الفاكهة للبيع وبأثمان مختلفة وبأقل بكثير عما تعرض به بالمدن وكل طفل يعرض ما لديه من فاكهة وخاصة التين الموجودة بكثرة بالمنحدرات والجبال المترامية بهذه البلديات الجبلية وعرة المسالك، ويتقاسم العشرات من أبناء الفئات الفقيرة والمعوزة بالمناطق النائية لهذه البلديات الحدودية هموم أوليائهم المتعلقة بالمصاريف اليومية وبالأخص مصاريف الدخول المدرسي، حيث تتواصل متاعب الأطفال اليومية فيقضون عطلة الصيف بدلا من الراحة والاسترجاع، يقضونها في العمل ومساعـدة أوليائهم في توفير لقمة العيش وخصوصيات المناطق وتوفرها على مساحات شاسعة من التين الهندي يجعل هؤلاء الأطفال هذه المادة مكسب قوتهم فيتجهون كل صباح إلى الحقول وإحضار كميات مختلفة من الفواكه الموسمية وخاصة التين الشوكي لعرضها للبيع على أرصفة الطرقات الرئيسية خاصة الوطنية الأكثر استقطابا للسياح القادمين من مختلف ولايات الوطن، وحتى الأجانب منهم، وقد وقفت “البديل” مع وضعية هذه الشريحة التي أنهكها الفقر وأثقلتها المتاعب اليومية وهموم أوليائهم وحتى في ظل الدخول المدرسي الذي لم يرحمهم بسبب المصاريف الثقيلة سواء المتعلقة بالملابس أو بمصاريف حقيبة التمدرس التي تحتوي على كراسات ومستلزمات أخرى إضافة إلى الكتب المدرسية والتي تتراوح قيمتها حسب المستويات ما بين 5000 و10 آلاف دج، وقد تحاورت مع أحد الباعة وهو تلميذ بالطور المتوسط ينحدر من منطقة سيدي بوجنان التابعة لبلدية السواني الحدودية، حيث وجدنا أمامه دلوا من فاكهة التين الشوكي وهو يعرضها للبيع بقيمة أقل بكثير من قيمتها المتداولة في أسواق عاصمة الولاية، حيث طلب في دلو ذات سعة 20 لترا مبلغا قيمته 250 إلى 300 دينار، وحين سألناه عن دوافع هذا العمل أشار بأنه الحاجة دفعته إلى ذلك بحيث والده بدون عمل وكل نشاطه في خدمة الأرض لا غير لكن هذا العمل، كما أشار ذات الطفل لا يعود عليه بالربح الكبير ولا يوفر حتى الاحتياجات من مأكل ومشرب وعلاج وملابس….هذا الأمر جعله يعتمد على نفسه منذ سنوات في بيع الفواكه في وقتها حتى يتسنى له توفير بعض الأموال والتي تقلل من هموم والده وتساعده في مصروفه الشخصي لشراء الملابس وأيضا التكفل بمصاريف الدخول المدرسي ومصاريف أخرى.
… وتبقى الأخطار المحدقة بهم واحدة
لكن إن اختلفت تفاصيل قصته عن قصص لأسماء أطفال التي سردناها ضمن تحقيقنا هذا، لكن تبقى الأخطار المحدقة بهم واحدة، خطر المركبات التي تعبر الطريق السريع وقد تأخذ أرواحهم في لحظة طيش وهم يغامرون بعرض سلعتهم عـلى طول الطرقات من أجل الحصول على دنانير للقمة عيش حلال. عـينات كثيرة تلك التي نشاهدها على الطرقات السريعة وشواطئ البحار ومختلف الأسواق الشعبية والتي عرفت كيف تستغل متطلبات الفصل لتوفير احتياجاتها، فبعد أن اختفى الكثيرون عن الأنظار عاد الصيف وعاد معه الأطفال الذين نصبوا طاولات بيع الفواكه الموسمية على الطرقات، وانتشر آخرون على اختلاف جنسهم في مختلف الشواطئ حاملين قففهم التي ضمت مختلف المواد الغدائية والأكلات التي يقبل عليها المصطافون، ليبقى الذكي حسب ما أجمع عليه البعض هو من يتمكن من الاستمتاع بعطلته وكسب المال في الوقت نفسه.
روبورتاج: ع. أمـيــر