
في زمنٍ أصبحت فيه التكنولوجيا تتحكم في تفاصيل حياتنا اليومية، لم يعد الهاتف الذكي مجرد وسيلة للاتصال أو الترفيه، بل تحوّل إلى رفيق دائم للشباب، يرافقهم في كل وقت وحين، وبينما يمثل هذا الجهاز نافذة على العالم وفرصة للمعرفة والانفتاح، فإن الاستخدام المفرط له بات يُنذر بخطر جديد يُعرف باسم “الإدمان الرقمي”.
هذه الظاهرة التي تتسلّل إلى حياة الأفراد دون ضجيج، تُخفي في طياتها آثارًا نفسية واجتماعية وسلوكية عميقة، وفي الجزائر، كما في باقي دول العالم، بدأ هذا الإدمان يتحوّل إلى مشكلة حقيقية تمسّ صحة الشباب وتوازنهم النفسي والاجتماعي، في ظل غياب التوعية الكافية وغياب سياسات تربوية وصحية فعالة.
تشير الدراسات الحديثة إلى أن إدمان الهواتف الذكية أصبح من أبرز التحديات التي تواجه المجتمعات الحديثة، حيث أظهرت دراسة صادرة عن المركز الوطني للبحث في الإعلام الاجتماعي سنة 2022 أن أكثر من 80% من الشباب الجزائري الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و30 سنة يمتلكون هواتف ذكية، ويقضون في المعدل ما بين 5 إلى 7 ساعات يوميًا في استخدامها، خاصة على تطبيقات التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وإنستغرام وتيك توك، هذا الاستخدام المفرط لا يمرّ دون آثار، فقد لاحظ الباحثون ارتفاعًا في نسب القلق والأرق وقلة التركيز لدى الطلبة الجامعيين، إلى جانب تدنٍ واضح في الأداء الأكاديمي وضعف في المهارات الاجتماعية والتواصل الواقعي.
لكن الظاهرة لا تقتصر على الجزائر فقط، بل تعدت ذلك لتشمل دولًا كثيرة في العالم، ما يجعلها خطرًا عالميًا مشتركًا، ففي الولايات المتحدة، كشفت مؤسسة “Common Sense Media” أن المراهق الأمريكي يقضي أكثر من 7 ساعات يوميًا أمام شاشات الهواتف خارج أوقات الدراسة، وهو ما دفع عدة ولايات إلى التفكير في تقنين استخدام الهاتف داخل المؤسسات التربوية.
أما في اليابان، فقد أعلنت وزارة التعليم عن خطة وطنية لمحاربة الإدمان الرقمي تشمل تنظيم وقت استخدام الهاتف في المدارس وتوفير استشارات نفسية للمراهقين، كوريا الجنوبية بدورها تُعد من أكثر الدول تقدمًا في هذا المجال، حيث تنظم الحكومة سنويًا مخيمات صيفية لإزالة السموم الرقمية، تستهدف الأطفال والمراهقين المدمنين على الإنترنت، وتقدم لهم تدريبات سلوكية وجسدية للعودة إلى حياة متوازنة، أما في أوروبا، فقد بادرت فرنسا منذ سنة 2018 إلى منع استخدام الهواتف الذكية في المدارس الابتدائية والمتوسطة، في محاولة للحد من التشتت الذهني وتعزيز الانتباه داخل الفصول.
ورغم وضوح المؤشرات، لا تزال الجزائر تفتقر إلى استراتيجية وطنية واضحة لمواجهة هذه الظاهرة، فالمؤسسات التربوية لا تقدم برامج توعوية كافية، والمناهج التعليمية لا تتضمن التربية الرقمية، كما أن الأسر غالبًا ما تفتقر إلى الأدوات التربوية التي تمكّنها من مرافقة أبنائها في العالم الرقمي، وفي ظل هذا الغياب، تبقى الهواتف الذكية تسيطر على عقول الشباب وسلوكهم دون حسيب أو رقيب.
ضرورة تنظيم حملات وطنية للتوعية في المدارس والجامعات
ومع ذلك، فإن الحلول ممكنة ومتاحة إذا توفّر الوعي والإرادة، فعلى المدى القريب، يمكن البدء بتنظيم حملات وطنية للتوعية في المدارس والجامعات، مع تكوين المربين والمدرسين في كيفية التعامل مع مظاهر الإدمان الرقمي، كما يجب تشجيع الأسر على وضع قوانين ذكية داخل البيت تنظم وقت استخدام الهاتف، دون اللجوء إلى المنع الكلي أو الصدام المباشر.
وفي نفس السياق، يمكن توفير فضاءات بديلة للشباب لممارسة الرياضة أو الأنشطة الثقافية التي تخلق توازنًا في الحياة اليومية،أما على المدى البعيد، فيتطلب الأمر تبني رؤية وطنية شاملة تقوم على إدماج التربية الرقمية في المناهج الدراسية، وتكوين مختصين نفسيين واجتماعيين قادرين على التعامل مع هذه الظاهرة الجديدة، إضافة إلى إنشاء مراكز دعم وإرشاد للمدمنين على الهاتف والإنترنت، مع تشجيع مطوري التطبيقات في الجزائر على ابتكار أدوات تساعد المستخدمين على التحكم في وقتهم الرقمي، كما يجب إشراك وسائل الإعلام في نشر الوعي، ليس فقط من خلال التحذير، بل عبر تقديم محتوى بديل يُظهر أهمية التوازن بين الحياة الواقعية والرقمية.
دعوة لتضافر الجهود لبناء جيل قادر على السيطرة على التكنولوجيا
إن إدمان الهواتف الذكية ظاهرة معاصرة عابرة للحدود، تهدد توازن الأفراد والمجتمعات، خصوصًا لدى فئة الشباب التي تُعد القلب النابض لأي مستقبل واعد، الهواتف الذكية ليست عدوًا بحد ذاتها، لكنها قد تصبح كذلك إذا غاب الوعي وساد الإفراط، مواجهة هذا الإدمان لا تقتصر على توعية الأفراد، بل تستدعي تضافر الجهود بين الأسرة والمدرسة والجامعة والإعلام وصنّاع القرار، وحده الوعي الجماعي والالتزام المؤسساتي يمكن أن يحصّن أبناءنا من السقوط في فخ العزلة الرقمية. وإذا أردنا جيلًا قادرًا على التحكم في التكنولوجيا بدل أن تتحكم فيه، فعلينا أن نتحرك الآن، قبل أن يصبح الهاتف أداة تسيطر على حياتنا بدل أن تساعدنا فيها.
عمر العربي