الثـقــافــة

الشاهد الأكبر عن جرائم فرنسا الاستعمارية

معتقل الموت بمدينة سيدي علي في مستغانم

يعد تاريخ 5 من شهر جويلية سنة 1962، المحطة المفصلية في تاريخ الثورة التحريرية الكبرى والتتويج الباهر لأعظم ثورة شعبية في تاريخ العالم المعاصر.

وبإقليم ولاية مستغانم التي قدم فيها الساكنة أروع  المعارك البطولية، ضد جحافل المستعمرين، كما كانت التضحيات جسيمة لمجابهة اعتي وأشرس أشكال الاستعمار الاستيطاني الذي جسدته فرنسا الكولونيالية في بلد المليون شهيد ، حيث لا زالت الشواهد و المشاهد شاهدة إلى يوم الدين من خلال تسطير أروع البطولات و تحدي أفضع أشكال الجرائم والمجازر.

وبمناسبة  عيد الاستقلال  الذي جاء تتويجا للاستفتاء الشعبي يوم 1 جويلية، وباجابة السواد الاعظم من ابناء الشعب بنعم لاسترداد السيادة الوطنية مثلما تضمنته اتفاقيات أيفيان التي عبرت عن إرادة الأمة الجزائرية ووحدتها، والوحدة الترابية بقيادة جبهة التحرير الوطني صانعة المجد التاريخي، ارتأت  اليومية أن تبرز فصلا من فصول جرائم فرنسا  خلال مرحلة الثورة التحريرية المجيدة وبغض النظر عما اقترفته طوال الحقبة الاستعمارية الملطخة بالدماء الزكية، التي كان عنوانها الجرائم البشعة على غرار محرقة أولاد رياح بمنطقة النقمارية شرق ولاية مستغانم التي ارتكبها السفاح ” بيليسي” سنة 1845 والتي راح ضحيتها أزيد من 1600 ضحية من الأطفال والشيوخ والنساء الذين احتموا بمغارة للاختفاء عن أعين مجرمي  الأرض المحروقة وحرب الإبادة، لفسح المجال أمام أوغاد المستوطنين لولوج بلاد الخيرات والأرض الطيبة الشامخة.

وبالرجوع إلى الصفحات السوداء لجرائم فرنسا خلال مرحلة الثورة التحريرية الكبرى، فقد ركزنا على سجن الكاريار ” أو معتقل الموت الكائن بتراب بلدية سيدي علي التي تبعد بحوالي 50كلم شرق عاصمة الولاية مستغانم ، وهو اليوم  موقعا تاريخيا تظل أركانه محفوظة بعدما حول  إلى متحف للمجاهد ليبقى  شاهدا عن فترة عصيبة وأليمة مر بها ساكنة المنطقة وتلك المجاورة لها.

المعتقل ذاك وحينما اشتدت ضربات مجاهدي جيش التحرير الوطني ،وتوالي هزائم القوات الفرنسية بانتشار الرعب وسط المعمرين ، وجراء تلاحم الشعب بقيادته الثورية مع اتساع رقعة المعارك المظفرة خصوصا منها معركة سيدي الزقاي بالمنطقة سنة 1956 ، أقدمت الإدارة الاستعمارية الفرنسية على بناء محتشد ومعتقل لقهر كل من يجرؤ على مساعدة الثورة أو التقرب منها،كما أضحى كل شخص بالغ محل شك يحول عنوة إلى ذات المعتقل الذي أقيم بربوة محاذية لموقع كانت تستخرج منه مواد البناء في الضاحية الجنوبية من مدينة سيدي علي عرف” بالكاريار” حيث أقيمت زنزانات  سخرت خصيصا لإنزال أبشع أنواع التعذيب على نزلائه.

المعتقل أحيط بسياج يعلوه برج للمراقبة وهو قريب من دار الحاكم الفرنسي، كان يحوي 9 زنزانات مختلفة السعة، إلى جانب 3 قاعات للاعتقال الجماعي للرجال والنساء، إضافة إلى مرافق أخرى منها مكتب الجلادين والعملاء والمكلفين بالتعذيب.

ذات المعتقل سيق إليه منذ افتتاحه أواخر سنة 1956 إلى غاية يوم النصر، أزيد وحسب مصادرنا التاريخية من 60 ألف معتقل منهم أزيد من 4 آلاف استشهدوا تحت نير التعذيب والجلد بمختلف الأساليب والأنواع البشعة، من اجل إسكات صوت الحق الذي يعلو ولا يعلى عليه ، إذ استعملوا شتى أساليب البطش من الاستنطاق إلى التجويع والترهيب بواسطة استخدام الكي  والصعقات الكهربائية والإعدام والتقييد بالسلاسل الحديدية والأغلال، والماء الساخن وخدش الحياء والاغتصاب للنساء المعتقلات، وهلم جر مما كان الجلادون يتفننون فيه من أشكال التعذيب التي ابتدعها جنرالات فرنسا، وما ارتكبوه من جرائم ضد الإنسانية تريد وسائل الإعلام الغربية والفرنسية طمسها، كما تتهرب السلطات الرسمية عن الاعتراف بما اقترف في حق شعب المليون  ونصف المليون شهيد.

19 من شهر مارس سنة 1962 كان تتويجا فعليا لثورة حطمت أسطورة الجيش الذي لا يهزم، حيث رسم عهدا جديدا للشعب الجزائري البطل الذي أبى إلا أن يحيا حرا في كنف الدولة المستقلة ذات السيادة.

إن صفحات فرنسا الاستعمارية تظل مليئة بالجرائم والمجازر التي لا تمحى من الذاكرة الجماعية، بتراب ولاية مستغانم وفي كل شبر من ارض الوطن، كما تظل الثورة النبراس الذي يضيء شموع الأمل وتشكل محطة تاريخية حاسمة تؤرخ لمدى التضحيات التي قدمها الشعب الجزائري، في مرحلة تبقى فيها الأمة  في حاجة إلى تضحيات مماثلة تدفع بالأجيال المستقبلية نحو بر الأمان لصناعة مجد الاستقرار والتقدم والرقي، بعيدا عن الصراعات التافهة.

اليوم ونحن نحتفل بالذكرى العظيمة كما جمعته اليومية من أصداء وأراء، فإن الأمة تبقى في حاجة ماسة إلى اخذ العبر من المحن والتضحيات وليت تكون هي ذكرى عيد الاستقلال  عبرة للجميع لتجاوز ما تعانيه الأمة من متاعب ومشاكل.

كما تبقى المناسبة العظيمة في حاجة إلى إحيائها في النفوس والعقول ، من خلال تنظيم الندوات والملتقيات العلمية والمحاضرات في الكليات والمعاهد والمدارس والأحياء والمراكز الثقافية ، المساجد    وغيرها   لتنال نصيبها الأوفر، ولتكون الدرس النموذجي للجميع  للاقتداء به ، لتعطى نصيبها في وسائل الإعلام لترسيخ الروح الوطنية في أوساط الأجيال الصاعدة التي تظل في أمس الحاجة لمعرفة تاريخ الأسلاف  بأمجاده ونكساته، والإحاطة بجرائم المستعمر الفرنسي  الذي تبقى أطماعه قائمة ،إلى أن يرث الله الأرض وما عليها مثلما جمعته اليومية من أراء العديد من الأساتذة والباحثين في الحقل التاريخي.الذين أكدوا أن الاحتفالات الرسمية تبقى محدودة التأثير ما لم تقرن بالاحتفالات الجماهيرية بالمناسبة التاريخية العظمى التي كانت نصرا عسكريا وديبلوماسيا وسياسيا ساحقا أمام اعتي قوة استعمارية.

وبالعودة إلى المعتقل حيث  بعد الاستقلال و استرجاع السيادة الوطنية  خضع لعدة عمليات ترميم، أخرها كان خلال السنة ما قبل المنقضية، اذ حول إلى متحف لتعريف الأجيال الصاعدة بما اقترفته فرنسا من جرائم يندى لها الجبين في حق الآلاف من أبناء الأمة من أعمال وحشية.

المتحف اليوم يحتوي على 3 أروقة منها رواق الزنزانات التي لا تزيد سعتها عن 6 أمتار مربعة كان يزف بها حد 80 معتقلا مكدسين عمقها، وضعت بداخلها ألان مجسمات لإبراز وضعية المسجون بها إلى جانب وسائل التعذيب، و بحيث أن كل زنزانة مخصصة لطريقة من طرق التعذيب الوحشي، فضلا عن إرفاق ذلك المشهد بأصوات تئن من صراخ وعويل مصحوبة بلحن حزين لآلة الناي، إلى جانب قاعة للعرض و مكتبة

وفي ذات السياق، فإن ولاية مستغانم أقامت بها فرنسا إبان الثورة التحريرية الكبرى نماذج لمعتقلات أخرى تواجدت بكل من منطقة بلاد الطواهرية بدائرة ماسرى ومعتقل آخر بمدينة عين تادلس و آخر بعاصمة الولاية كانت كلها مواقع لإنزال أبشع أنواع التعذيب للمعتقلين  من شتى الفئات الشعبية التي احتضنت الثورة وأسهمت في إنزال الهزيمة باعتي وأشرس قوة استعمارية التي ظلت تقطع الرؤوس منذ عهد المقاومات الشعبية إلى أخر يوم من خروج قواتها ذليلة مهزومة.

فيما سجل استحسان مواطني ولاية مستغانم، الإرادة السياسية القوية لرئيس الجمهورية من خلال استرجاع رفات و جماجم شهداء المقاومات الشعبية بما لذلك من رمزية و دلالات تاريخية عميقة تبقى على الذاكرة الجماعية حية في انتظار الاحتفالات الضخمة المنتظرة نهار الغد بمناسبة الذكرى الستون لاسترجاع السيادة الوطنية.

مولود.م

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى