
في الزمن الذي يفترض فيه أن الإنترنت منصة للتحرر والتعبير، تحولت المنصات الرقمية إلى ساحات معركة خفية.
المشهد في غزة لم يعد محصوراً بالقنابل والدمار المادي فحسب، بل امتد إلى حرب رقمية شرسة تهدف إلى تشويه الرواية الفلسطينية وإسكات أصواتها. هذه المعركة غير المتكافئة تخوضها آليات رقمية معقدة تتنكر في ثوب الحياد التكنولوجي.
آليات التشويش الرقمي: أكثر من مجرد حذف منشورات
الرقابة في العصر الرقمي لم تعد تعمل كمقص خشن، بل أصبحت عملية جراحية دقيقة تستخدم أدوات متطورة:
(01)- الخوارزميات الانتقائية: تعمل أنظمة الذكاء الاصطناعي على تصنيف المحتوى المتعلق بفلسطين بشكل تلقائي تحت عناوين “حساسة” أو “مثيرة للخلاف”، مما يقلل من وصوله بشكل منهجي. في بعض الحالات، يتم خفض ترتيب هذه المنشورات بنسبة تصل إلى 80بالمائة مقارنة بالمحتوى الآخر.
(02)- التعتيم الجغرافي المستهدف: تطبق بعض المنصات سياسات مختلفة حسب الموقع الجغرافي للمستخدم. فما يظهر للمتابعين في أوروبا عن أحداث غزة قد يختلف جذرياً عما يراه المستخدمون في المنطقة العربية، في عملية تشبه “التقسيم الرقمي” للرواية.
(03)- إسكات المؤثرين: الحسابات الفلسطينية المؤثرة تخضع لمراقبة خاصة. دراسة حديثة أظهرت أن 65 بالمائة من الحسابات الناشطة في الدفاع عن القضية الفلسطينية تعرضت لتقييد أو تعليق مؤقت خلال الأزمات الأخيرة.
الاقتصاد السياسي للرقابة الرقمية
وراء هذه الممارسات تكمن مصالح متشابكة تشكل نظاماً معقدا:
(01)- ضغوط الشركات الكبرى: شركات التكنولوجيا تخضع لضغوط من جهات متعددة بما فيها الحكومات والمعلنين الكبار. وثائق مسربة أظهرت أن بعض المعلنين يهددون بسحب إعلاناتهم إذا ارتبطت بأي محتوى “مثير للجدل”.
(02)- الاستثمار في أدوات الرقابة: تقدر بعض التقارير أن الإنفاق على برامج الرقابة الرقمية قد تضاعف 03 مرات خلال السنوات الـ05 الماضية، مع تركيز خاص على منطقة الشرق الأوسط.
(03)- صناعة التطبيع الرقمي: بعض المنصات تروج لمحتوى يدعو للتطبيع مع الاحتلال بينما تحجب المحتوى الذي يوثق انتهاكات حقوق الإنسان، في محاولة لخلق واقع رقمي موازٍ.
المقاومة الرقمية: إبداعات في مواجهة الآلة
لم يستسلم النشطاء لهذه الآلة القمعية، بل طوروا استراتيجيات ذكية:
(01)- التكتيكات اللامركزية: استخدام شبكات P2P والبلوك تشين لنشر المحتوى بعيداً عن سيطرة المنصات المركزية.
(02)- الحرب السيميائية: ابتكار رموز وإشارات ثقافية خاصة تمرر الرسائل تحت رادار الرقابة، مثل استخدام الفلكلور الفلسطيني كشيفرة بصرية.
(03)- الأرشيف الموازي: إنشاء قواعد بيانات مستقلة تحفظ المحتوى المحذوف وتضمن استمرارية الرواية التاريخية.
معركة الوجود الرقمي
ما يحدث اليوم ليس مجرد حذف منشورات، بل هو محاولة منهجية لمسح الذاكرة الجمعية وإعادة كتابة التاريخ بلغة القوة. لكن كل تقنية قمع تلد تقنية تحرر، وكل خوارزمية رقابة تدفع النشطاء إلى مزيد من الإبداع. المعركة الحقيقية هي معركة وعي – ففي عصر يمكن فيه تشويه الحقائق بنقرة زر، يصبح الحفاظ على الرواية الصادقة عملاً ثورياً بحد ذاته. السؤال الذي يطرح نفسه بقوة: هل سنسمح للتقنية أن تكون أداة للقمع، أم سنعيد اختراعها لتصبح سلاحاً للتحرير؟
ياقوت زهرة القدس بن عبد الله