تكنولوجيا

الذكاء الاصطناعي وإعادة تشكيل صورة الإنسان عن نفسه

بيئة رقمية شاملة لا مجرد أدوات

لم تعد التكنولوجيا مجرّد أدوات مساعدة أو منصّات للتسلية، بل أصبحت تمثّل بيئة متكاملة نعيش في داخلها، تُعيد تشكيل تفاصيل حياتنا اليومية، وتفرض إيقاعًا جديدًا لعلاقتنا بالعالم وبأنفسنا وبالآخرين.


لم يعد الإنسان هو الذي يستخدم التكنولوجيا، بل بات في حالات كثيرة يُعاد تشكيله وفق مقتضياتها. وهذا التحوّل التكنولوجي لم يحدث بشكل تدريجي فحسب، بل تسارَع بقوّة مع ظهور تقنيات الذكاء الاصطناعي، والواقع المُعزَّز، والبيانات الضخمة، ومنصّات التواصل الاجتماعي التي أصبحت بمثابة العقل الجمعي الجديد.

جيلان رقميان في قلب التحول


في قلب هذه الثورة الرقمية يقف جيلان أساسيان: جيل Z، المولود بين عامي 1997 و2012، وجيل ألفا، الذي وُلد بعد عام 2013. الجيل الأول يشكّل جسراً بين عالمَين: ما قبل الثورة الرقمية، وما بعدها، حيث عاش تحوّلات كبرى مثل الانتقال من الكتب الورقية إلى الشاشات، ومن الهاتف الأرضي إلى الرسائل الفورية، ومن التعليم التقليدي إلى التعلّم عن بُعد. أما جيل ألفا، فهو جيل لم يعرف سوى العالم الرقمي منذ ولادته، تفتّحت حواسه الأولى على شاشة، وتعلّم لغته الأولى من مساعد صوتي، وتلقّى مفاهيمه الأولية عبر تطبيقات ذكية.

الهوية في زمن الخوارزميات


لقد تغيّرت الطريقة التي يبني بها الإنسان هويته. لم تعد الأسرة والمدرسة والثقافة المحلية وحدها مسؤولة عن تشكيل الذات، بل دخلت عوامل جديدة وقوية، مثل الصور والمنشورات وتفاعلات المنصّات، التي أصبحت هي المعيار الأساسي للتقييم والقبول. الهوية اليوم تُنتج بطريقة “مُفلترة”، وتُقاس بكمية “الإعجابات” والمشاهدات، لا بتجارب الذات العميقة، ولا بالمعنى الوجودي المتجذّر في العلاقات الواقعية.

عزلة رغم كثافة التواصل


ورغم الكمّ الهائل من وسائل التواصل الرقمي، تُظهر الدراسات تزايدًا في مشاعر العزلة والوحدة، خصوصًا لدى الشباب والمراهقين. لقد ربطت تقارير طبية بين الاستخدام المفرط للتكنولوجيا وارتفاع معدلات القلق، واضطرابات النوم، وضعف التركيز، وتدهور المهارات الاجتماعية. فجيل Z، رغم كفاءته التكنولوجية العالية، يعاني صعوبات في بناء علاقات إنسانية متينة، بينما يظهر جيل ألفا علامات مبكرة على تأخّر في النضج العاطفي واللغوي، نتيجة الانغماس الكلي في العالم الرقمي منذ الطفولة.

الذات في مواجهة الذكاء الاصطناعي


في عالم تتداخل فيه الذات البيولوجية مع الذات الرقمية، يطرح السؤال الجوهري نفسه: من أنا؟ من يُوجّهني فعلًا: أنا، أم الخوارزمية التي تقرّر عني ما أقرأ وأرى وأرغب؟ هذا التداخل لم يعد مجرّد ظاهرة سطحية، بل أصبح يؤثّر على إدراك الإنسان لذاته، وعلى حريته في اتخاذ قراراته، حتى في أبسط تفاصيل حياته اليومية.

التكنولوجيا بين الوعد والخذلان


لقد وُعد الإنسان بأن التكنولوجيا ستُحرّره وتمنحه إمكانيات غير مسبوقة، ولكنّ الواقع يُظهر جانبًا آخر، حيث باتت هذه الأدوات تصوغ سلوكياتنا وقيمنا وتوجهاتنا دون وعي منا. لم تعد منصّات مثل “تيك توك” و”يوتيوب” وسواها مجرّد أدوات ترفيه، بل تحوّلت إلى مصانع للثقافة، تتحكّم فيما نستهلكه معرفيًّا وفكريًّا وعاطفيًّا. إنها تمارس تأثيرًا ناعمًا وعميقًا يعيد تشكيلنا على مهل، وقد تُفقدنا تدريجيًّا صلتنا بجوهرنا الإنساني.

نحو توازن جديد


في ظل هذه التغيّرات، لا يكفي أن نحمّل الأفراد وحدهم مسؤولية التكيّف مع التكنولوجيا، بل من الضروري التفكير في حلول جماعية. يجب على المؤسسات التعليمية مراجعة مناهجها، لا فقط لإدخال التقنية، بل لإعادة التوازن بين ما هو رقمي وما هو إنساني. كما يجب أن تستعيد الأسرة دورها كمصدر للقيم وكمساحة للمقاومة العاطفية في وجه التمدّد التكنولوجي.

المسؤولية الأخلاقية والتشريعية


أما صانعو القرار، فيتحمّلون مسؤولية كبرى في ضبط الاستخدامات التكنولوجية ووضع أطر تشريعية تُقلّل من تغوّل الأنظمة الذكية في تفاصيل الحياة اليومية. الأمر لا يتعلق فقط بسنّ القوانين، بل بإعادة بناء العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا على أساس يحفظ للإنسان إنسانيته، ويعيد له سلطة اتخاذ القرار في عالم بدأت تحكمه البرمجيات.

الإنسان أولًا.. دائمًا


لسنا بحاجة إلى تقليل استخدام التكنولوجيا بقدر ما نحتاج إلى إعادة توجيه استخدامها بطريقة تحفظ جوهرنا الإنساني. المستقبل لا تصنعه الآلات، بل يصنعه الإنسان الذي يُحسن التعامل مع الآلات دون أن يفقد ذاته في الطريق. ولذلك، فإن المعركة الحقيقية ليست بين الإنسان والآلة، بل بين الإنسان وإنسانيته.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى