
الذكاء الاصطناعي المفتوح المصدر .. تثير البرمجيات مفتوحة المصدر منذ سنوات طويلة جدلا واسعا بين المهتمين بصناعة التقنية. حيث يرى بعضهم أنها تساهم في نشر المعرفة وإتاحة الأدوات للجميع. بينما يعتبرها آخرون بابا لمخاطر لا يمكن السيطرة عليها. ومع دخول الذكاء الاصطناعي في هذا النقاش باتت القضية أكثر حساسية لما قد تحمله هذه النماذج من قدرات استثنائية.
يعتقد مؤيدو هذا الاتجاه أن إتاحة نماذج الذكاء الاصطناعي بصيغة مفتوحة المصدر .يفتح المجال أمام المطورين والباحثين لتطويرها وتوظيفها في ابتكارات متعددة. بينما يحذر المعارضون من وصولها إلى الأيدي الخطأ. مما قد يؤدي إلى استخدامات غير امنة أو حتى ضارة. وبين هذين الموقفين تظل المسألة محور نقاش متواصل في الساحة التقنية.
في خضم هذا الجدل. جاءت التجربة الصينية لتغير المشهد مؤقتا، فقد طرحت شركات هناك نماذج مفتوحة المصدر يمكن لأي شخص الوصول إليها. وهو ما دفع شركة “أوبن آي” ولأول مرة منذ انطلاقتها. الى إطلاق نموذج مفتوح بالكامل. خطوة أيدتها إدارة “ترامب” وشجعت المؤسسات الأمريكية على اتباعها.
لكن يبقى السؤال الأساسي. ما الذي يميز الذكاء الاصطناعي المفتوح المصدر عن النماذج المعتادة. وهل يمكن لهذه المقاربة أن تغير مسار مستقبل التقنية على المستوى العالمي.
البرمجيات المفتوحة بين الحرية والتطوير
قبل الخوض في خصوصية الذكاء الاصطناعي المفتوح المصدر. من المهم التوقف عند مفهوم البرمجيات المفتوحة بشكل عام. فهي كما يشير اسمها أنظمة يمكن تعديلها أو إعادة تشكيلها بحرية من قبل المبرمجين. من دون الرجوع إلى الجهة المطورة الأصلية. ما يمنحهم القدرة على إدخال تحسينات أو تغييرات جذرية قد تنتج عنها برمجيات جديدة تماما.
الأمثلة على ذلك كثيرة في حياتنا اليومية. إذ إن متصفح كروم الشهير الذي طورته شركة “غوغل” يقوم على نواة مفتوحة المصدر تدعى “كروميوم”.والتي استفادت منها متصفحات أخرى، كما أن نظام تشغيل الهواتف الذكية أندرويد يعد من أبرز الأنظمة المفتوحة رغم أن تشغيله بكفاءة عالية يحتاج إلى تحميل خدمات غوغل. إلا أن خيار استخدامه من دونها يظل متاحا.
وتؤكد مبادرة المصدر المفتوح التي تتخذ من كاليفورنيا مقرا لها. على أن هذه الفلسفة تضمن حرية التعديل والتخصيص لجميع المطورين. وهو المبدأ الذي تريد نقله أيضا إلى ميدان الذكاء الاصطناعي. حيث يشترط أن توفر الشركات بيانات التدريب والياته حتى يكون النموذج مفتوحا بشكل حقيقي.
النماذج المفتوحة في هذا المجال. تسمح للمطورين بإعادة تدريبها على مجموعات بيانات جديدة. مما يجعلها تختلف جوهريا عن النموذج الأصلي. وهذه الخاصية تمنحها مرونة عالية وتفتح الباب أمام استخدامات لا حصر لها.
من الشركات الكبرى إلى المبادرات العالمية
برزت خلال السنوات الأخيرة عدة نماذج للذكاء الاصطناعي مفتوحة المصدر قدمتها شركات عالمية. من أبرزها شركة “ميتا” التي طرحت سلسلة نماذج إل لاما. وجعلت شيفرتها متاحة رغم أن آليات التدريب لم تكشف بشكل كامل. الأمر الذي أثار انتقادات من مبادرة المصدر المفتوح بشأن شروط الترخيص وإمكانية الاستغلال التجاري.
كما ظهرت شركات أخرى على الساحة مثل “ديب سيك”. التي أطلقت في يناير الماضي نموذجا ثوريا قائما على نواة مفتوحة المصدر وأتاحته للعموم. إضافة إلى دخول “أوبن آي” هذا الميدان بعد سنوات من الاكتفاء بالنماذج المغلقة. حيث طرحت نسختين جديدتين من سلسلة “جي بي تي” في أغسطس الفائت بصيغة مفتوحة المصدر.
ولم تقف شركة “آبل” بعيدا عن هذا التوجه. إذ أطلقت في التوقيت ذاته نموذجين تحت مسمى فاست في إل إم وموبايل كليب 2. ضمن إطار الانفتاح على المجتمعات التقنية. لتؤكد أن السباق نحو الانفتاح في هذا القطاع لم يعد مقتصرا على فئة محددة. بل أصبح خيارا استراتيجيا تتبناه أسماء كبرى.
هذا الحراك العالمي، يعكس اتجاها متزايدا نحو تعزيز الشفافية وإتاحة التقنيات. وإن كان الاختلاف قائما بشأن حدود هذه الشفافية والرقابة اللازمة لضمان عدم انحرافها عن مسار الاستخدام الإيجابي.
الذكاء الاصطناعي المفتوح المصدر .. بين المنافع والمخاطر المحتملة
يرى المؤيدون أن الذكاء الاصطناعي المفتوح المصدر يساهم في تسريع انتشار التقنية وتبنيها، حيث إن كلفتها أقل بكثير من النماذج المغلقة، وقد تتوفر مجانا في بعض الأحيان، وهو ما يجعلها في متناول المطورين والأفراد ويزيد من معدلات استخدامها، كما أن انفتاحها يفرض على الشركات مستوى أعلى من الرقابة، إذ يمكن مراجعة آليات التدريب بسهولة قبل أن تصل إلى الجمهور على خلاف النماذج المغلقة.
لكن هذا التفاؤل لا يشاركهم فيه الجميع، فهناك أصوات تنتقد غياب التأمين الكافي في مثل هذه النماذج، خصوصا مع احتمال تضمينها برمجيات تتبع أو إمكانية استغلالها من قبل أطراف غير مسؤولة، ويخشى بعض الساسة في الولايات المتحدة من أن يؤدي الانفتاح الواسع إلى كشف أسرار تقنية حساسة للخصوم وهو ما لا يرغبون به. كما أن المخاطر لا تقف عند حدود التسريب بل تمتد إلى احتمالية استخدام هذه النماذج لبناء برمجيات خبيثة أو أدوات مضرة منذ البداية، وهو ما يجعل الحذر واجبا في التعامل مع هذا المسار الجديد، خاصة أن التاريخ التقني مليء بأمثلة عن أدوات طورت لأغراض إيجابية ثم جرى استغلالها بطرق غير متوقعة.
وبين المنافع والمخاطر تظل المسألة رهنا بمدى قدرة المجتمعات التقنية على وضع أطر واضحة للاستخدام وموازنة حرية التطوير مع مقتضيات الأمن، ما يجعل الذكاء الاصطناعي المفتوح المصدر موضوعا ساخنا سيبقى في صدارة النقاشات التقنية خلال السنوات المقبلة.
بن عبد الله ياقوت زهرة القدس