
في عصر تتدفق فيه المعلومات من كل اتجاه، لم تعد الحقيقة مسألة بديهية أو مضمونة وسائل الإعلام الرقمية، منصات التواصل الاجتماعي، والمدونات الشخصية، جعلت من نشر الأخبار مسألة في متناول الجميع، لكن بالمقابل أوجدت بيئة خصبة لانتشار الإشاعات التضليل، والمعلومات الكاذبة أمام هذا المشهد المتشابك يبرز “التحقق من الحقائق” كأداة أساسية لا غنى عنها، خاصة في ظل التطور المتسارع للتقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي.
مع ظهور الإنترنت، أصبحت سرعة تداول المعلومة عاملاً حاسماً في التأثير الإعلامي مواقع التواصل مثل تويتر ، فيسبوك و إنستغرام، تُعدّ مصادر أولية للمعلومات بالنسبة للملايين ولكنها ليست دائماً دقيقة أو موثوقة. يمكن لمنشور واحد أن يصل إلى ملايين الأشخاص خلال دقائق سواء أكان حقيقياً أو مفبركاً.
وهنا تكمن خطورة الأخبار الكاذبة، فهي لا تنتشر فقط بسرعة بل تُصاغ بطريقة جذابة تستدرج المتلقي وتؤثر في سلوكه ومواقفه، خاصة في القضايا السياسية، الصحية أو الاجتماعية، ومع استخدام تقنيات متقدمة مثل الذكاء الاصطناعي في التزييف (كما في فيديوهات “ديب فيك”)، أصبحت قدرة الفرد العادي على التمييز بين الصحيح والمضلل تحدياً حقيقياً.
أدوات التحقق تتطوّر
لمواجهة هذه الظاهرة، طوّرت العديد من المؤسسات الإعلامية ومنصات التكنولوجيا أدوات خاصة للتحقق من المعلومات و من أبرز هذه المبادرات، نجد خدمات التحقق من الحقائق المستقلة التي تُديرها منظمات مثل “Snopes“، “PolitiFact” و”Africa Check” والتي تستند إلى معايير مهنية صارمة وتُجري مراجعات دقيقة للمحتوى المتداول.
كما اعتمدت منصات كبرى مثل “فيسبوك” و”يوتيوب” خوارزميات ترصد المحتوى المضلل وتُرفقه بتحذيرات أو روابط لمصادر موثوقة، خاصة في القضايا المتعلقة بالصحة العامة أو الانتخابات وتعمل هذه الأنظمة بشكل شبه آلي، لكنها تواجه تحدياً في دقة الفهم اللغوي والثقافي والسياقي للمعلومة ما يجعل التدخل البشري جزءاً أساسياً من عملية التحقق.
لا شك أن الذكاء الاصطناعي قدّم نقلة نوعية في تتبع المعلومات الزائفة، من خلال تقنيات تحليل النصوص، تتبّع الصور أو مقارنة التصريحات ببيانات موثوقة فمثلاً يمكن للأنظمة الذكية اليوم تحليل آلاف التغريدات في وقت قصير واستخلاص الأنماط التي تدل على حملة تضليل منسقة.
لكن في الوقت نفسه، أصبح الذكاء الاصطناعي أداة تُستخدم أيضاً في إنتاج المعلومات الزائفة من إنشاء مقاطع فيديو وصور مزيفة بدقة عالية إلى إنشاء حسابات وهمية تُدار تلقائياً لنشر محتوى موجه ما يجعل المعركة مع التضليل أكثر تعقيداً وتطلباً لحلول متجددة باستمرار.
دور الصحافة الاستقصائية
رغم التقدم التقني، تبقى الصحافة المهنية وخاصة الاستقصائية منها هي الحصن الأخير في وجه التلاعب بالحقيقة إذ تعتمد هذه الصحافة على جمع الأدلة و المقارنة بين المصادر والتحقق المتقاطع قبل نشر أي معلومة. وقد أظهرت تجارب كثيرة من فضائح سياسية إلى حملات إعلامية مضللة أن العمل الصحفي الرصين قادر على كشف الحقيقة رغم الضغوط.
لكن الصحفيين أنفسهم باتوا بحاجة إلى أدوات جديدة، وتدريبات مستمرة لفهم آليات التضليل الحديثة وكيفية التعامل مع المحتوى الرقمي والتقنيات المتطورة مثل التزييف العميق وتحليل البيانات الضخمة.
المستخدم.. الحلقة الأهم
لا يمكن لأي نظام تحقق أن يكون فعالاً دون وعي المستخدم نفسه فالمتلقي اليوم لم يعد مجرد مستهلك سلبي للمعلومة بل هو شريك في صناعتها ونشرها. وهنا تأتي أهمية التربية الإعلامية والرقمية، التي تهدف إلى تعزيز التفكير النقدي وتعليم الناس كيفية التحقق من المصادر وعدم الانسياق وراء العناوين المضللة أو المنشورات المثيرة.
من المبادرات المهمة في هذا السياق تلك التي تُنفذ في المدارس والجامعات أو عبر ورشات تدريبية للمجتمع، تهدف إلى تمكين الأفراد من تقييم مصداقية الأخبار والصور ومقاومة الشائعات، خاصة في أوقات الأزمات أو الحملات الانتخابية.
التحقق من الحقائق في زمن التقنية لم يعد ترفاً أو جهداً نخبوياً بل ضرورة اجتماعية، تتطلب تكاملاً بين الأنظمة التقنية و الإعلام المهني والتعليم العام فالمعركة مع التضليل لا تُخاض فقط بالأدوات، بل أيضاً بالعقول والضمائر.
وفي وقت تتقدم فيه التكنولوجيا بشكل رهيب ، فإن التحدي الأكبر هو في المحافظة على الحقيقة كقيمة، والدفاع عنها وسط فوضى معلوماتية تتغذى على التفاعل السريع والانطباع اللحظي ولعل المستقبل القريب سيشهد نماذج أكثر تطوراً من التعاون بين الإنسان والآلة، لكشف الكذب وإعادة الاعتبار للخبر الصادق.
إعداد : ياقوت زهرة القدس بن عبد الله