
تصدّع جديد يضرب أحزابا تونسية ويُنبئ بمزيد من التشظّي، هكذا يُمكن وصف استقالة الأمين العام لـ”حزب التيار الديمقراطي” غازي الشواشي، الذي أشار إلى افتقاد التيار للأدوات الضرورية للمساهمة في حل أزمة البلاد.
ويبدو أن التيار، على غرار أحزاب أخرى، لم يلتقط الأزمة، وهذا ما عبّر عنه صراحة مجدي الكرباعي القيادي المستقيل أيضًا من التيار، حيث قال إن الحزب لم يحدد موقفه من توصيف إجراءات 25 جويلية من العام الماضي بـ”الانقلاب” من عدمه.
وليست الاستقالات وحدها التي تؤثر على موقف الجبهة المناوئة لإجراءات قيس سعيّد، فما يُعرف بـ “قضية التسفير” أطاحت بنائب رئيس حركة النهضة علي العريض، وكان رد النهضة فوريًا، حيث قالت إن الحكم يأتي في سياق توظيف القضاء لاستهداف قياداتها للتغطية على ما وصفته بـ”الفشل الذريع” للانتخابات التشريعية.
ويبعث تدنّي المشاركة في الانتخابات برسائل مُحبطة، وفقًا للأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل نور الدين الطبوبي، الذي أكد أمام أنصاره أن العبث لا يُمكن أن يستمرّ.
وفي سياق رده على تدني نسبة التصويت في الانتخابات التشريعية، لم يفوت الرئيس قيس سعيّد التعريج على المحاكمات ضد أطراف سياسية شكّكت في جدوى العملية الانتخابية، قائلًا إن مواقف هؤلاء “شبيهة بمن يُعلن نتيجة مقابلة رياضية عند انتهاء شوطها الأول”، في إشارة إلى دورة ثانية للانتخابات التي ستُقام في النصف الثاني من جانفي المقبل.
وهو ما يُثير التساؤلات بشأن ما يُمكن أن تغيّره تلك الدورة في الواقع السياسي في تونس، وما إذا كانت ستتخطى نسبة المشاركة حدودًا تُسكت المشكّكين.
تونس ذاهبة إلى الانهيار التام
وتعليقًا على تلك التطورات، يوضح مجدي الكرباعي النائب السابق في كتلة “التيار الديمقراطي”، أن استقالته من التيار جاءت لأن المقاربة الكلاسيكية الحزبية في مواجهة الوضع الحالي لم تعد ذي جدوى حيث اقتصر النضال الحزبي على بيانات.
ويقول الكرباعي، إن التونسيين بحاجة إلى مقاربة أشمل لحل معضلة البلاد، غير أن الالتزامات الحزبية والتنظيمية لا تسمح بذلك، ناهيك عن أن مرحلة الانتقال الديمقراطي ما قبل الانتقال تحتاج إلى رؤية ونظرة نقدية، وهو ما لا يسمح به الحزب أيضًا.
ويضيف في نفس السياق، أن النسب المتدنية للمشاركة في الانتخابات التشريعية تُشير إلى أن المجتمع التونسي وضع حاجزًا بينه وبين الدولة، وعلى السياسيين التدخّل لإنقاذ ما يُمكن إنقاذه، لأن تونس ذاهبة نحو الانهيار التام للدولة، ويؤكد أن الواجب الوطني يدعونا إلى التخلّي عن هذه الجسيمات التي أصبحت تكبّل أي ناشط سياسي، والذهاب إلى إنقاذ ما تبقّى من الدولة والمسار الانتقالي.
توقيف العريّض لامتصاص صدمة المقاطعة الشعبية
بدوره، يصف بلقاسم حسن، نائب رئيس المكتب السياسي لحركة النهضة، توقيف رئيس الحكومة الأسبق علي العريض بأنه هروب إلى الأمام من الانقلاب، وتوظيف سياسي للقضاء رغم ما نكنّه له من احترام وما نعرفه عن نزاهة القضاة التونسيين.
ويقول حسن، إن قضية التسفير مفبركة، من دون وجود أي دليل على أي تورط للعريض أو أي قيادي أو عضو في حركة النهضة، وهو ما نتركه للقضاء كي يبت به.
ويعتبر، أن توقيف العريّض هو لامتصاص صدمة المقاطعة الشعبية الواسعة للانتخابات والامتعاض الشعبي من الوضع الاقتصادي والاجتماعي المتردّي، مضيفًا أن الرئيس سعيّد يرى في هذا التوقيف إرضاء لأنصاره.
خطاب سعيّد لا يُجدي نفعًا
في المقابل، يوضح محمد مسيليني، عضو المكتب السياسي لـ”حركة الشعب” التونسية، أن لا علاقة للسلطة التنفيذية بـ “قضية التسفير” المرفوعة ضد العريّض، بدليل أن نائبة سابقة هي مَن رفعت القضية.
ويقول مسيليني، إن النسبة المتدنية للمشاركة في الانتخابات هي رسالة للرئيس وللطبقة السياسية كاملة بأن الشعب التونسي لم يعد معنيًا بالعملية السياسية وبالشأن العام، مضيفًا أن على الجميع التقاط هذه الرسالة، من رئيس وأحزاب وقيادات، ويعتبر أن خطاب الرئيس حول نسبة المشاركة لا يُجدي نفعًا لأنه لا يُمكن الضمّ بين الدورتين الانتخابيتين، كما أن نسبة المشاركة في الدورة المقبلة ستكون أقلّ من الدورة الأولى.
ويرى في المقابل، أنه كان يتوجّب على الرئيس الإدلاء بخطاب شامل للشعب يُحدّد فيه المسؤوليات، ويقدّم خارطة الطريق التي سينتهجها في المرحلة المقبلة.
مقاطعة سياسية وعزوف شعبي
أعلنت السلطات في تونس أن نحو 11 بالمائة فقط من الناخبين المسجلين أدلوا بأصواتهم في الانتخابات البرلمانية بعد أن قاطعت معظم الأحزاب السياسية الاقتراع ووصفته بأنه “مهزلة” تهدف إلى تدعيم سلطات الرئيس قيس سعيّد.
ومنذ إعلان الرئيس التونسي في الخامس والعشرين من جويلية من العام الماضي فرض التدابير الاستثنائية بمقتضى المادة 80 من الدستور تتسارع الأحداث السياسية في البلاد.
إذ علّق الرئيس حينها عمل البرلمان لمدة ثلاثين يومًا وأقال رئيس الحكومة هشام المشيشي، بينما دعا الاتحاد العام التونسي للشغل الرئيس إلى الإسراع في الثالث من أوت بتعيين رئيس حكومة وتشكيل حكومة “إنقاذ” مصغرة.
وفي 24 أوت من نفس العام، أعلن سعيّد تمديد تعليق نشاط البرلمان حتى إشعار آخر. كما أصدر في الثالث من أغسطس أمرًا رئاسيًا يتضمن تدابير استثنائية أخرى تعزز صلاحياته على حساب الحكومة والبرلمان الذي حلّ الرئيس فعليًا محله عبر إصدار النصوص ذات الصبغة التشريعية، لكن في شكل مراسيم.
وفي 29 سبتمبر أيضًا، كلف الرئيس نجلاء بودن بتشكيل حكومة في أسرع وقت أما في التاسع من ديسمبر ، فأعلن سعيّد أن دستور عام 2014 غير صالح ولا مشروعية له.
وفي 13 ديسمبر، أعلن سعيّد تمديد تجميد أعمال البرلمان المعلّق منذ الخامس والعشرين من جويلية إلى حين إجراء استفتاء حول إصلاحات دستورية صيف عام 2022 وتنظيم انتخابات تشريعية نهاية العام ذاته.
أمّا في الخامس من فبراير 2022، فأعلن الرئيس سعيّد حلّ المجلس الأعلى للقضاء، وذلك بعد أن اتهم أعضاء فيه بالولاءات وبالخضوع لتأثير غريمه السياسي حركة النهضة، وفي 30 مارس صوّت مجلس النواب ضد جميع قرارات سعيّد منذ 25 وجويلية، وردًا على هذا التصويت وفي نفس اليوم، أصدر سعيّد قرارًا بحل البرلمان واصفًا الجلسة العامة للبرلمان بمحاولة “انقلاب”.
وفي الخامس والعشرين من جويلية 2022 تم التصويت على الاستفتاء على دستور جديد للبلاد، حيث أظهرت النتائج تأييد أكثر من 94 بالمائة لصالح الدستور الجديد الذي صوّت عليه قرابة ثلاثة ملايين ناخب.
نسب مشاركة ضئيلة
هزّت مسار الرئيس التونسي قيس سعيّد “ضربة من العيار الثقيل”، إذ تعبّر الأغلبية عن رفضها لقراراته التي اتخذها منذ 25 جويلية عام 2021 عبر شبه مقاطعة للانتخابات التشريعية الأخيرة، ولم تتجاوز نسب المشاركة في هذه الانتخابات عتبة نسبة 11 بالمائة، حيث تشير الأرقام الرسمية إلى أنّ قرابة مليون و25 ألف ناخب قاموا بالاقتراع من أصل نحو 9 ملايين و200 ألف ناخب مسجل.
ومقارنة بالمحطات الانتخابية السابقة التي عرفتها تونس ما بعد الثورة، فهي على الأقل، قد بلغت نسبة 40.32 بالمائة عام 2019، ونسبة 69 بالمائة عام 2014، فيما وصلت 52 بالمائة نسبة المشاركة سنة 2011، هو زلزال سياسي على حدّ تعبير أحد أكبر خصوم سعيّد، رئيس جبهة الخلاص الوطني المعارضة أحمد نجيب الشابي.
المطالبة برحيل سعيّد
ولم تمض ساعات على الإعلان عن نسبة المشاركة، حتى طالبت أغلب الأحزاب والشخصيات على اختلاف الانتماءات، الرئيس قيس سعيّد بالرحيل الفوري، واعتبار حكمه قد انتهى بقرار شعبي.
واتخذت المعارضة من الانتخابات الأخيرة منصة للمطالبة برحيل سعيّد، فمقاطعة شريحة كبيرة من التونسيين للانتخابات ما هي إلا رسالة واضحة لسعيّد الذي فقد شرعيته ومصداقية مشروعه السياسي، بحسب وصفهم.
لكن الهيئة العليا المستقلة للانتخابات والمشرفة على الاقتراع عزت ضعف نسبة المشاركة إلى تغير نظام الاقتراع وانعدام المال السياسي.
كما ذكرت شخصيات مؤيدة لسعيّد أنّ طبيعة العملية الانتخابية التي نظمت هذه المرة وفقًا للترشحات الفردية وليست بناء على القوائم الحزبية زاد من ضعف نسبة المشاركة، وستجري جولة إعادة في معظم الدوائر التونسية بالنظر إلى فوز عدد قليل من المترشحين من الجولة الأولى.
وسيحل مجلس النواب الجديد المكّون من 161 نائبًا بسلطات محدودة للغاية محل المجلس الذي جمّد سعيّد أعماله في 25 جويلية من عام 2021.
مقاطعة المعارضة
وكانت أغلب أحزاب المعارضة التونسية قد أعلنت في وقت سابق مقاطعة التصويت في الانتخابات البرلمانية. واتهمت المعارضة الرئيس سعيّد بأنه “قوّض التقدم الديمقراطي” الذي تحقق منذ قيام الثورة التونسية في 2011، وهي الاتهامات التي ينفيها الرئيس التونسي.
وتضم قائمة المقاطعين لهذه الانتخابات كيانات سياسية مختلفة مثل جبهة الخلاص الوطني المكونة من عدد من الأحزاب السياسية والهيئات المدنية بينها أحزاب حركة النهضة وقلب تونس وائتلاف الكرامة وحراك تونس الإرادة وحزب حركة أمل المعارضة، إلى جانب تنسيقية الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية.
في المقابل، يساند كل من حزب حركة الشعب وحزب التيار الشعبي مسار 25 من جويلية منذ الإعلان عن الإجراءات الاستثنائية، وسيمنح الإقبال الضعيف على التصويت منتقدي سعيّد ذخيرة للتشكيك في شرعية ما يجريه من تغييرات سياسية، فيما تبدو الانتخابات مفصلية بالنظر إلى الوضع الاقتصادي والمالي والاجتماعي في البلاد.