
مع إعلان شركة جوجل عن توسعة ميزة “ملخصات الذكاء الاصطناعي” وبدء تفعيل “وضع الذكاء الاصطناعي” في نتائج البحث، تجد المنظومة الإعلامية التقليدية نفسها أمام موجة رقمية جارفة تهدد أحد أعمدة وجودها: حركة الزيارات المباشرة إلى مواقعها.
فبدلاً من أن يتجه المستخدم إلى المصدر الأصلي للاطلاع على مقال أو تقرير، بات محرك البحث يقدّم إجابة جاهزة، مصاغة باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، تعتمد على محتوى تلك المواقع ذاتها، دون المرور بها أو منحها أي مقابل مادي.
هذه النقلة النوعية في طريقة تقديم المعلومة تعيد طرح سؤال جوهري: من يملك المعرفة في العصر الرقمي؟ وهل بات الذكاء الاصطناعي مجرد وسيط، أم أنه تحول إلى محتكر جديد؟
بين الحق في المعرفة وحقوق النشر
لطالما شكل محرك البحث أداة للربط بين المستخدم والمعلومة، غير أن التغيير الجديد يُظهر جوجل كجهة مالكة للمحتوى لا مجرد وسيط. حين تُقدّم إجابة مولّدة بواسطة الذكاء الاصطناعي، مستندة إلى مقالات وتحليلات وصور نُشرت في مواقع إعلامية وصحفية، دون الإشارة إلى المصدر بشكل مباشر، أو منح الناشر مقابلاً عادلاً، تتحول العلاقة من تكامل إلى استغلال.
وتتمثل خطورة هذا التحول في أنه لا يكتفي بأخذ الفكرة أو الإطار العام، بل يعيد إنتاج المحتوى بأسلوب جديد، مع المحافظة على جوهره. وهذا يشبه إلى حد بعيد إعادة النشر غير المرخص، ولكن بأسلوب تقني يصعب تتبعه قانونيًا أو ضبطه تنظيميًا.
احتجاجات إعلامية تتصاعد
لم يكن من المفاجئ أن يخرج “تحالف وسائل الإعلام والأخبار” في الولايات المتحدة ليصف الوضع بـ”السرقة الرقمية الصريحة”. فقد أشار التحالف إلى أن جوجل، من خلال واجهة البحث الجديدة، تصادر آخر ما تبقى للناشرين من مصدر للإيرادات: الروابط التي توجه القراء إلى مواقعهم. وتذهب رئيسة التحالف إلى حد دعوة وزارة العدل للتدخل، معتبرة أن الشركة تمارس نوعًا من “الاحتكار المعرفي”.
ولا يقف الأمر عند حرمان الناشرين من الزوّار، بل يمتد إلى فرض خيار صعب: إما قبول استخدام المحتوى داخل مخرجات الذكاء الاصطناعي، أو الانسحاب الكامل من محرك البحث، وهو ما يعني غيابًا شبه كلي عن الإنترنت. وهذا “الابتزاز التقني” يضع أصحاب المواقع أمام مأزق أخلاقي ومالي في آن واحد.
تساؤلات قانونية بلا أجوبة واضحة
تبرير جوجل بأن السماح للمواقع بالانسحاب من ميزات محددة دون أخرى “معقد للغاية”، يثير تساؤلاً مشروعًا: هل أصبحت السيطرة على المعلومة تبرر تجاوز الحقوق؟ ولماذا يُفترض أن يُبنى نظام الذكاء الاصطناعي على محتوى الآخرين، ثم يُعتبر التراجع عنه عبئًا تقنيًا؟
إنّ منطق “الكل أو لا شيء” الذي تفرضه جوجل لا يتماشى مع فلسفة الإنترنت المفتوح، ولا يراعي التعددية التي تقوم عليها بيئة النشر الرقمية. فالتقنيات يجب أن تكون في خدمة البشر، لا وسيلة لفرض الهيمنة عليهم، خاصة حين يتعلق الأمر بمصدر دخل رئيسي لعشرات الآلاف من العاملين في قطاع الإعلام.
الإعلانات
موازاة ذلك، بدأت جوجل بالفعل بإدراج الإعلانات داخل واجهات الذكاء الاصطناعي، حيث تظهر توصيات ومنتجات ممولة إلى جانب الإجابات التي يقدمها النظام الذكي. ومع أن المحتوى الأساسي الذي يُبنى عليه الرد الذكي مأخوذ من مواقع أخرى، فإن عائدات الإعلانات تبقى حصرًا بيد جوجل، دون تقاسمها مع من أُخذ منهم المحتوى أساسًا.
هنا تبرز المفارقة: جوجل تستفيد ماديًا من محتوى لم تنتجه، وتحتكر قنوات التوزيع، وتتحكم في تجربة المستخدم بالكامل. والمثير للقلق أن هذه الصيغة قد تصبح النموذج السائد، ما لم تُسن تشريعات تُعيد التوازن بين من ينتجون المعرفة ومن يوزعونها.
الصحافة في مفترق طرق
ليس من المبالغة القول إن النشر الصحفي اليوم يقف على مفترق حاسم. فإما أن يتطور الإطار القانوني ليواكب الذكاء الاصطناعي، ويحمي حقوق الناشرين والمؤلفين، أو أن تتراجع الصحافة الحرة إلى هامش المشهد، بعدما كانت في مركزه.
ويبدو أن جوجل تراهن على غياب موقف موحّد بين المؤسسات الإعلامية، وتستغل الفجوة التنظيمية لفرض أمر واقع، يصعب تغييره لاحقًا. لكنّ التاريخ يُظهر أن التوازن بين القوى الرقمية لا يُبنى بالهيمنة، بل بالتفاوض والاعتراف المتبادل بالحقوق.
في ظل كل هذا الجدل، يجب أن نتذكر أن التقنية ليست محايدة، فطريقة تصميمها وتفعيلها وتوزيعها تعكس أولويات صانعيها ومصالحهم. وإذا لم يتم تقنين تلك الأولويات، فإن الخطر لا يهدد الصحافة وحدها، بل يهدد الحق العام في الوصول إلى معلومة موثوقة، من مصدرها الأصلي، ضمن بيئة إعلامية شفافة ومتكافئة.