تكنولوجيا

الشعور بالفراغ ونقص الشغف في عصر “الإنترنت”:

كيف تحولنا التكنولوجيا إلى كائنات بلا معنى؟

أصبحنا في عصر “الإنترنت” والانفجار الرقمي، متصلين طوال الوقت، نستهلك المحتوى بسرعة مذهلة، وننتقل من فيديو إلى آخر، ومن منشور إلى آخر، ومن تطبيق إلى آخر، لكن رغم هذا الكم الهائل من المعلومات والترفيه، يعاني الكثيرون من الشعور بالفراغ، ونقص الشغف، وحتى فقدان الهدف في الحياة.

كيف يمكن لعالم مليء بالإثارة والمتعة أن يجعلنا نشعر بهذا القدر من الضياع؟ وما الذي تفعله التكنولوجيا بعقولنا حتى نفقد القدرة على الاستمتاع بالحياة الواقعية؟ هل هذه حقيقة عصر “الأنترنت”؟.

كيف يحدث “الإنترنت” شعور الفراغ؟

رغم أن “الإنترنت” وفر لنا وسائل ترفيه غير محدودة، إلا أنه في الوقت نفسه سرق منا قدرتنا على التفاعل الحقيقي مع الحياة. أصبحنا نبحث عن المتعة السريعة بدلًا من عيش تجارب عميقة، فنجد أنفسنا ننتقل بين تطبيقات التواصل الاجتماعي، نتابع أخبار المشاهير، نشاهد مقاطع فيديو قصيرة بلا هدف، وفي النهاية نشعر أننا لم نفعل شيئًا حقيقيًا طوال اليوم.

واحدة من أكبر مشكلات “الإنترنت” هي أنه يعطينا إحساسًا زائفًا بالإنتاجية أو المتعة. فمثلًا، قد نقضي ساعات في مشاهدة مقاطع فيديو عن تطوير الذات، أو الاستماع إلى نصائح حول تحسين الحياة، لكن دون أن نطبق شيئًا منها. نحن نشعر بأننا نفعل شيئًا مفيدًا، لكن في الواقع، لا شيء يتغير.

إدمان التحفيز السريع وفقدان الشغف الحقيقي بـ”الأنترنت”

إن “الإنترنت”، وخاصة وسائل التواصل الاجتماعي، تعتمد على نظام المكافآت الفورية، حيث يحصل دماغنا على جرعات صغيرة من الدوبامين كلما شاهدنا محتوى جديدًا، أو حصلنا على إعجاب، أو تلقينا إشعارًا. المشكلة هي أن هذا النوع من التحفيز يجعل الأنشطة الحقيقية في الحياة تبدو مملة بالمقارنة.

على سبيل المثال، إذا كنت تحاول قراءة كتاب أو تعلم مهارة جديدة، فقد تجد نفسك غير قادر على التركيز، لأن عقلك أصبح معتادًا على المتعة السريعة التي توفرها مقاطع الفيديو القصيرة والمنشورات السريعة. وهكذا، يضيع الشغف بالأشياء الحقيقية التي تتطلب جهدًا، مثل التعلم، والإبداع، والعمل الجاد، لأن الدماغ لم يعد قادرًا على تحمل “الملل” الناتج عن العمليات الطويلة والمعقدة في عصر “الأنترنت”.

كيف يدمر “الإنترنت” الإحساس بالإنجاز؟

قبل “الإنترنت”، كان الناس يشعرون بالرضا عن إنجازاتهم الصغيرة: إنهاء كتاب، إتمام مشروع، تعلم مهارة جديدة. اليوم، أصبح الإنترنت يجعلنا نشعر وكأن أي إنجاز نقوم به لا قيمة له.

إذا كنت فخورًا بأنك تعلمت العزف على الجيتار، ستجد على “الإنترنت” آلاف الأشخاص أفضل منك بمراحل. إذا كنت قد بدأت مشروعًا صغيرًا، ستشاهد فيديوهات لرواد أعمال يحققون الملايين. هذا التدفق المستمر من المحتوى يجعل أي شيء نقوم به يبدو تافهًا بالمقارنة، مما يؤدي إلى الإحباط، وانعدام الرضا، وفقدان الشغف بالمحاولة من الأساس.

ضياع الهوية في بحر محتوى “الأنترنت”

لم يغير “الإنترنت” فقط طريقة تواصلنا، بل أثر أيضًا على هويتنا وطريقة تفكيرنا. نحن نتعرض يوميًا لآلاف الآراء، والاتجاهات، ونماذج النجاح المختلفة، مما يجعلنا نعيش في حالة من المقارنة المستمرة. أصبح من الصعب معرفة ما نريده حقًا، لأننا محاطون دائمًا بمحتوى يخبرنا بما يجب أن نكون عليه.

فمثلًا، قد تجد شخصًا يحب الرسم، لكنه بعد قضاء وقت طويل على “الإنترنت”، يبدأ في الشك فيما إذا كان هذا المجال مفيدًا أم لا، لأن الجميع يتحدث عن البرمجة وريادة الأعمال. ومع مرور الوقت، يفقد اهتمامه الحقيقي، ليس لأنه لم يعد يحبه، بل لأنه تأثر بموجات الترند والمحتوى المنتشر.

كيف نستعيد الشغف ونتغلب على الفراغ في عصر “الإنترنت” ؟

(01)- تقليل استهلاك المحتوى السريع: إذا كنت تشعر بفقدان الشغف في عصر “الإنترنت”، فكر في تقليل استخدامك لوسائل التواصل الاجتماعي والمحتوى السريع. حدد لنفسك وقتًا يوميًا محدودًا لاستخدام الإنترنت، واستبدل هذا الوقت بأنشطة تجلب لك متعة حقيقية، مثل الرياضة، أو القراءة، أو تعلم مهارة جديدة.

(02)- التركيز على الإنجازات الواقعية: حاول أن تبدأ مشاريع أو أنشطة تتطلب جهدًا حقيقيًا، حتى لو كانت صغيرة في عصر “الإنترنت”. يمكن أن يكون ذلك طهي وجبة جديدة، أو كتابة مقال، أو ممارسة هواية قديمة. المهم هو أن تركز على الأشياء التي تعطيك شعورًا حقيقيًا بالإنجاز، بدلاً من مجرد استهلاك المحتوى.

(03)- التخلص من المقارنات المستمرة: تذكر أن “الإنترنت” يعرض لك فقط أفضل اللحظات في حياة الآخرين، وليس الواقع بالكامل. لا تقارن نفسك بأشخاص آخرين بناءً على ما تراه على الإنترنت، لأنك ترى فقط جزءًا صغيرًا ومُحسّنًا من حياتهم. ركّز على تطوير نفسك بدلًا من مطاردة معايير غير واقعية.

(04)- تدريب العقل على التركيز والصبر: بما أن “الإنترنت” جعلنا معتادين على المتعة السريعة، فمن المهم أن ندرّب عقولنا على الاستمتاع بالأنشطة التي تتطلب وقتًا وجهدًا. يمكنك البدء بتدريبات بسيطة مثل التأمل، أو قراءة كتاب لمدة 30 دقيقة دون انقطاع، أو كتابة أفكارك في دفتر يوميات.

(06)- إعادة اكتشاف ما تحب بعيدًا عن “الإنترنت”: خصص وقتًا لتجربة أشياء جديدة في الواقع، بعيدًا عن الشاشات. ربما تكتشف أنك تحب الطبيعة، أو السفر، أو التصوير، أو الموسيقى، لكنك لم تنتبه لذلك لأنك كنت مشغولًا دائمًا بالمحتوى الرقمي. الحياة الحقيقية مليئة بالتجارب التي لا يمكن لأي شاشة أن تعوضها.

هل نحن ضحايا التكنولوجيا في عصر “الإنترنت” ؟

أن “الإنترنت” أداة قوية، لكنه في الوقت نفسه يمكن أن يكون فخًا يسلبنا شغفنا بالحياة الحقيقية. نحن نعيش في عصر يتمتع بفرص غير مسبوقة، ولكن إذا لم نكن حذرين، قد نجد أنفسنا عالقين في دوامة لا نهائية من الاستهلاك الرقمي، دون أن نحقق أي شيء ذو معنى في الواقع.

الشعور بالفراغ ليس لأن الحياة مملة، بل لأننا نملأنا عقولنا بمحتوى سريع وسطحي، دون أن نترك لأنفسنا مساحة للتجربة، والاكتشاف، والإبداع. ربما حان الوقت لنخرج من هذا الفخ، ونعيد الاتصال بالحياة الحقيقية، حيث الأشياء تأخذ وقتًا، لكنها تكون أكثر قيمة ومتعة عندما نعيشها بكل تفاصيلها في عصر “الإنترنت”.

ياقوت زهرة القدس بن عبد الله

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى