خاص

الصوم بين الماضي والحاضر

بين روحانية الأمس وتحديات اليوم

الصوم بين الماضي والحاضر .. بقلم: د. عمر العربي (جامعة طاهري محمد بشار)

الصيام عبادة عظيمة فُرضت على الأمم منذ القدم، لكنه لم يكن مجرد امتناع عن الطعام والشراب، بل كان رحلة روحانية ترفع الإنسان إلى معاني الصبر والتقوى. ومع أن جوهر الصيام بقي ثابتًا، إلا أن طريقة عيشه واستقباله تغيّرت كثيرًا بين الماضي والحاضر. فكيف كان الصوم قديمًا؟ وما الفرق بين إخلاص العبادة والعمل في الماضي واليوم؟

كان الصحابة والسلف الصالح يقدّرون شهر رمضان حق قدره، فلم يكن قدومه مفاجئًا لهم، بل كانوا يستعدون له بالدعاء والتجهيز النفسي والروحي. كانوا يتضرعون إلى الله أن يمدّ في أعمارهم ليشهدوا رمضان، وعند انتهائه لا يغترّون بأعمالهم، بل يخافون من عدم قبولها. أما داخل رمضان، فكانوا يعيشون أيامه ولياليه في طاعة خالصة، يختمون القرآن الكريم مرات عديدة، يقضون أوقاتهم بين الصلاة، والذكر، والصدقة، ومساعدة المحتاجين. لم يكن الصيام عذرًا للتكاسل، بل كانوا يجاهدون، ويعملون، ويشاركون في الغزوات الكبرى كغزوة بدر وفتح مكة، اللتين وقعتا في رمضان.

في عصرنا الحالي، تغيّرت العادات وأصبحت مظاهر استقبال رمضان مختلفة تمامًا. أصبح التركيز على التحضير للأطباق والمأكولات أكثر من الاستعداد الروحي. قلّ الاجتهاد في قراءة القرآن وختمه، حيث يمر الشهر دون أن يفتح البعض المصحف إلا نادرًا. كما أن البعض يربط الصيام بالخمول والكسل، فتقل الإنتاجية والعمل. لكن يمكننا اليوم إعادة التوازن، من خلال تنظيم الوقت والاستفادة من رمضان لتحسين علاقتنا بالعبادة والعمل معًا.

رمضان محطة سنوية لتنقية الروح والجسد

ليس مجرد شهر للامتناع عن الطعام والشراب، بل هو محطة سنوية لتنقية الروح والجسد. فمتى فرض الصيام؟ وما هي فوائده الصحية والنفسية والروحية؟ فرض الله الصيام على المسلمين في السنة الثانية للهجرة، كما جاء في قوله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ” (البقرة: 183). فالصيام فريضة قديمة، فرضت على الأمم السابقة، وجاء الإسلام ليؤكد على أهميتها ويضيف إليها بعدًا روحيًا عميقًا.

الصيام يساعد الجسم على التخلص من السموم المتراكمة، حيث يعيد تنظيم عملية الهضم ويمنح الجهاز الهضمي راحة ضرورية. كما يعزز جهاز المناعة، حيث يحفز تجديد الخلايا ويقلل من الالتهابات. الصيام يقلل من خطر الإصابة بأمراض القلب والسكري، كما أنه يحد من نمو الخلايا السرطانية بسبب تقليل نسبة السكر في الدم. وهو يحفز إنتاج بروتينات تعزز صحة الدماغ، مما يحسن الذاكرة والتركيز.

على المستوى الروحي، يعلمنا الصيام الصبر والتحمل، ويساعدنا على التخلص من العادات السيئة مثل الغضب والقلق. كما يزيد من تقوى الله في قلوبنا، ويجعلنا أكثر وعيًا بذنوبنا وأخطائنا. الصيام يجعلنا نشعر بالفقراء والمحتاجين، مما يعزز فينا قيم التعاطف والرحمة. كما يمنحنا فرصة للتفكير في حياتنا وأهدافنا، مما يساعدنا على تحقيق السلام الداخلي والرضا عن النفس.

الصيام والإخلاص في العمل

في خضم انشغالات الحياة الحديثة، قد يقع البعض في فخ التكاسل والتسويف خلال رمضان، بحجة أن الصيام يُضعف الجسد ويقلل الإنتاجية. لكن هذا الفهم بعيد كل البعد عن روح الصيام الحقيقية. يقول الله تعالى: “وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ” (التوبة: 105). هذه الآية تؤكد أن العمل الصالح هو جزء من الإيمان، وأنه يجب أن يكون خالصًا لوجه الله. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه” (رواه البيهقي). الصحابة كانوا يجمعون بين الصيام والجهاد والعمل، ولم يكن الصيام عائقًا أمام إنتاجيتهم، بل كان دافعًا للإتقان.

حتى ننفض غبار التكاسل، يمكننا تنظيم الوقت، واستخدام ساعات الصباح الباكر عندما تكون الطاقة في ذروتها لإنجاز المهام المهمة. كما يمكننا تحديد الأولويات والتركيز على الأعمال التي تحقق أكبر فائدة دينية ودنيوية. علينا أيضًا أن نستعين بالدعاء، ونسأل الله أن يعيننا على الإخلاص في العمل، كما كان يفعل السلف. وتذكر أن العمل في رمضان له أجر مضاعف، خاصة إذا كان خالصًا لوجه الله.

رمضان ليس شهر الكسل، بل هو شهر الجدّ والاجتهاد. فلنستلهم من سيرة السلف الصالح إخلاصهم في العبادة والعمل، ولنحرص على أن نكون منتجين ومتقنين لأعمالنا، حتى نكون من الذين قال عنهم الله تعالى: “وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا” (العنكبوت: 69).

رمضان… محطة للتغيير أم مجرد عادة موسمية؟

الصيام ليس مجرد عبادة موسمية، بل هو مدرسة روحية تهذب النفس وتقوي الإرادة، كما أنه يغرس فينا قيم الإخلاص والانضباط في العمل. فهو يعلمنا قوة الإرادة، ويحثنا على أداء أعمالنا بإتقان، تمامًا كما كان يفعل السلف الذين جمعوا بين الصيام والاجتهاد دون تهاون، مدركين أن العمل عبادة لا يجوز التفريط فيها.

لكن يبقى السؤال مطروحًا: هل نستطيع اليوم أن نعيد للصيام روحه الحقيقية، فنعيش معانيه كما أرادها الله، لا مجرد عادة موسمية؟ وهل ينعكس أثره على حياتنا بعد انقضاء الشهر، ليجعلنا أكثر إخلاصًا في أعمالنا، أم أننا نراه مجرد فترة مؤقتة سرعان ما ننساها ونعود لما كنا عليه؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى