
محـطة خالدة دوّنها تاريخ الجزائر بأحرف من دماء الشهداء الذين سقطوا في سبيل أن تحيا الجزائر حرة مستقلة، وهي واحدة من سلسلة تضحيات الشعب المجاهد الذي سجل له التاريخ، تضحياته ومآثره الخالدة، وأعمالا جساما لم يسجلها فرد بعينه، بل كانت من زخم الشعب ومن رحم ضميره الباطني والجمعي، والتي تستحق كل التقدير والاهتمام.
مظاهرات 11 ديسمبر 1960… الذكرى الخالدة في نفوس من عايشوها من المجاهدات والمجاهدين، أو ممن اكتووا بنارها من أبناء وطننا المفدى، كانت من بين الحلقات الأخيرة، لملحمة نوفمبر، أين تكسرت فيها أسطورة الجزائر الفرنسية، وذابت فكرة الاستقرار الاستعماري الحاقد، وبينت في الوقت ذاته سياسة المحتل وفضحت مشاريعه وعرت منهجه، ودحضت أسلوبه في التعامل مع أبناء الثورة الجزائرية، ورفعت علم الجزائر عاليا.
نعم، يحيي اليوم الشعب الجزائري الذكرى الــ 64 لمظاهرات 11 ديسمبر 1960…ذكرى خالدة شكّلت منعرجا حاسما في تحديد مسار الثورة التحريرية المجيدة، حينما شحنت الهمم واتحدت العزائم آنذاك للوقوف في وجه المستعمر ونيل الحرية والإعتاق، حيث تدفقت سيول المناضلين في المظاهرات السلمية المنددة بالسياسة الاستعمارية الفرنسية، لتتحول إلى مأساة إنسانية حصدت أرواح عديد الأبرياء المنددين بجبروت الاستعمار، لكن بشاعة فرنسا، وقتئذ، لم تثن من عزيمة الجزائريين الذين أصروا على النضال وإيصال صوت الجزائر عبر المحافل الدولية إلى غاية نيل الحرية.
لقد المظاهرات كشفت للأمة جمعاء وحدة الشعب الجزائري والتفافه حول مقومات حضارته وعدم التفريط في هويته مهما كلفه ذلك من ثمن وتضحيات، حيث خرج الجزائريون لتأكيد مبدأ تقرير المصير ضد سياسة ديغول الرامية إلى إبقاء الجزائر جزء من فرنسا في إطار فكرة “الجزائر جزائرية” وموقف المعمرين الفرنسيين الذين حملوا فكرة “الجزائر فرنسية”، وهي الأفكار التي لم يرضخ لها الشعب الجزائري وتصدى لها بمظاهرات11 ديسمبر 1960 التي تعد منعرجا حاسما في تاريخ حرب التحرير الوطنية، والتي سماها العديد من مجاهدي الثورة التحريرية بمفخرة الثورة المظفرة، لتبقى بذلك راسخة في الأذهان ويشهد التاريخ لها إلى الأزل بما أنها تضحيات شعب لم يرضخ لذل المستعمر…تاريخ نضال يفوق عقدا من الزمن سيبقى خالدا في الذاكرة الجزائرية بما أنه مسيرة جهاد ونضال كان ليكون على لسان العديد من المجاهدين الذين شهدوا لهذا التاريخ الحافل.
المجاهد “الحاج عبد الرحمان قطبي”: “مظاهرات 11 ديسمبر أفشلت المخططات الاستعمارية”
أكد المجاهد “الحاج عبد الرحمان قطبي”، من مواليد 1933 والذي التحق بالنضال سنة 1955، أن مظاهرات 11 ديسمبر 1960 أفشلت مخططات الاستعمار الفرنسي الرامية إلى فصل الشعب الجزائري عن قيادة الثورة التحريرية، وقال إن قيادة جبهة التحرير الوطني أعطت الأوامر للمواطنين لتنظيم هذه المظاهرات ردا على مخططات الاستعمار الفرنسي الذي كان يسعى إلى فصل الشعب عن قيادة الثورة، مضيفا أن الشعب الجزائري استجاب بقوة لهذا النداء بانطلاق المظاهرات من عين تموشنت يوم 09 ديسمبر لتنتقل شرارتها إلى عدة مدن من التراب الوطني وصولا إلى العاصمة يوم 11 ديسمبر 1960، وبشأن الأهداف التي حقّقتها هذه المظاهرات التاريخية، يرى المجاهد الحاج قطبي أنها كانت رسالة من الشعب الجزائري إلى فرنسا أبرزت مدى التفاف الشعب حول ثورته وإصراره على مواصلة الكفاح لانتزاع الاستقلال واسترجاع السيادة الوطنية، خصوصا وأنها أعطت دفعا قويا للوفد الجزائري المفاوض من أجل حق تقرير المصير ووحدة التراب الوطني، وعلى الصعيد الدولي، يقول أن مظاهرات 11 ديسمبر كان لها الصدى الكبير على الرأي العام الدولي، حيث أصبح صوت الثورة التحريرية يدوي في المحافل والمنابر الدولية، مبرزا أن منظمة الأمم المتحدة صادقت خلال تلك الفترة على اللائحة الأفرو- آسياوية، التي تقر حق الشعوب المستعمرة في تقرير مصيرها.
تدفق شعبي أدهش المستعمر وأخلط حساباته
خرجت جماهير الشعب الجزائري، خلال الأسبوع الثاني من شهر ديسمبر 1960، عبر العديد من مناطق البلاد، لتبرهن للنظام الاستعماري الفرنسي وللرأي العام الدولي عن رفضها لكل الأطروحات الفرنسية التي استهدفت الالتفاف حول المشروع الوطني الذي تحددت أهدافه ووسائل تجسيده في بيان الفاتح نوفمبر 1954.
ومن أبرزها، استرجاع السيادة الوطنية كاملة بالكفاح المسلح، باعتباره الوسيلة المثلى المعبرة عن تصميم الشعب وإرادته في التخلص من مظالم الاحتلال في أبعاده المتعددة، ولازالت شوارع العاصمة والمدن الجزائرية الأخرى التي عاشت تلك الأحداث تشهد على ما حفلت به من معاني التحدي من خلال مداهمة الجماهير الشعبية لمواقع القوات الاستعمارية، التي حرصت على محاصرة كل الأحياء المفعمة بالحيوية النضالية، محاولة التحكم في مجرى الأحداث قبل استفحال مخاطرها، غير أن إصرار أبناء الجزائر الأحرار، أثبت يومها فشل الأجهزة الأمنية والاستخباراتية الفرنسية وعيون الملاحقة التي نصبتها عبر كل منافذ ومخارج ميادين الأحداث، ويشهد التاريخ أن جبهة التحرير الوطني عملت على التصدي لسياسة الجنرال ديغول الذي ارتكز على الفرنسيين الجزائريين، لمساندة سياسته والخروج في مظاهرات واستقباله في عين تموشنت في 9 ديسمبر 1960، في الوقت الذي عمل فيه المعمرون من جهتهم على مناهضة ذلك بالخروج في مظاهرات يوم 10 ديسمبر 1960 لفرض الأمر الواقع على الجزائريين، والرد على شعار ديغول “الجزائر جزائرية” بشعارهم الحالم الجزائر فرنسية.
وأمام هذا وذاك، تدخلت جبهة التحرير الوطني بقوة شعبية هائلة رافعة شعار الجزائر مسلمة مستقلة للرد على الشعارين المغرضين، وجاء زحف المظاهرات الشعبية بقيادة جبهة التحرير الوطني يوم 11 ديسمبر ليعبر عن وحدة الوطن والتفاف الشعب حول الثورة مطالبا بالاستقلال التام، حيث خرجت مختلف الشرائح في تجمعات شعبية في الساحات العامة عبر المدن الجزائرية كلها، ففي الجزائر العاصمة عرفت ساحة الورشات (أول ماي حاليا) كثافة شعبية متماسكة مجندة وراء العلم الوطني وشعارات الاستقلال وحياة جبهة التحرير، وعمت المظاهرات شوارع “ميشلي” سابقا (ديدوش مراد حاليا) وتصدت لها القوات الاستعمارية والمعمرون المتظاهرون، كما توزعت المظاهرات في الأحياء الشعبية في بلكور (بلوزداد حاليا) و”سلامبي” (المدنية حاليا)، باب الوادي والحراش، بئر مراد رايس، القبة، بئر خادم، ديار السعادة، القصبة ومناخ فرنسا (وادي قريش)، وكانت الشعارات واحدة، وتم رفع العلم الوطني وإعلاء شعارات جبهة التحرير الوطني والحكومة المؤقتة على غرار “تحيا الجزائر مستقلة”، لتتوسع المظاهرات إلى العديد من المدن الجزائرية كوهران، الشلف، البليدة، قسنطينة، عنابة وغيرها من المدن الجزائرية، وكانت الأمواج البشرية تنفجر من كل الثنايا، لتواجه بكم هائل من الدبابات والعربات المصفحة وبعشرات الآلاف من الجنود المدججين بأقوى الأسلحة، وذلك على مدار أزيد من أسبوع.
كسبت التأييد الدولي وأدخلت فرنسا في عزلة
ومع تدخل القوات الاستعمارية في عمق ما يعرف بالأحياء “العربية”، سقطت العديد من الأرواح الجزائرية في تاريخ الحادي عشر ديسمبر 1960 دون أن تمنع خروج المتظاهرين إلى الشوارع في الأيام الموالية هاتفين بالاستقلال وبحياة جبهة التحرير الوطني، وعمدت السلطات الاستعمارية إلى منع المواطنين من القيام بدفن جثث الشهداء ووصلت درجة الفظاعة إلى السير عليهم بواسطة الدبابات المصفحة، وهذا ما بيّن الحقد الدفين لغلاة الاستعمار الذين جن جنونهم للتحرك الجماعي للشعب، غير أن حصاره المفروض على مداخل ومخارج كل الشوارع والساحات، لم يؤثر على التدفق البشري ومؤازرة الجماهير للكفاح المسلح.
وبعيدا عن العاصمة ووهران، دامت المظاهرات أزيد من أسبوع بكل من قسنطينة، عنابة، سيدي بلعباس، الشلف، البليدة، بجاية، تيبازة وغيرها، حيث كشفت كلها وبفعل الصدى الذي أحدثته على أكثر من صعيد، حالة الارتباك التي أصابت المستعمر الفرنسي ومدى إصرار الشعب الجزائري على افتكاك السيادة المسلوبة، لاسيما أن انفجار المظاهرات الشعبية تزامن مع وصول ممثلي الصحافة العالمية رفقة الجنرال ديغول في زيارته لبعض المدن الجزائرية، حيث كان العالم على موعد مع صور المجزرة الرهيبة التي اقترفها الجيش الاستعماري وحلفاؤه من معمرين في حق الشعب الجزائري الأعزل، من خلال المراسلات الإذاعية والصحفية التي كشفت للعيان مظالم الاستعمار الفرنسي في الجزائر وحجم الجرائم الشنيعة التي ارتكبها في حق المدنيين العزل والشيوخ والأطفال.
وقد كانت حصيلة هذه المظاهرة ثقيلة، حيث أسفرت عن خسائر فادحة في الأرواح وذلك بسقوط أكثر من 800 شهيد عبر كامل التراب الوطني وأكثر من 1000 جريح، بالإضافة إلى قيام الشرطة الفرنسية بمداهمات ليلية واختطاف الجزائريين من منازلهم واعتقال عدد كبير من المتظاهرين قصد التحقيق معهم، غير أن هذه الأحداث التاريخية الخالدة مكنت جبهة التحرير الوطني من انتصار سياسي كبير وواضح، في إطار الرد على سياسة ديغول والمعمرين، حيث ألقى الرئيس فرحات عباس يوم 16 ديسمبر 1960 خطابا في شكل نداء، أشاد فيه ببسالة الشعب الجزائري وتمسكه بالاستقلال الوطني وإفشاله للسياسة الاستعمارية والجرائم المرتكبة ضد المدنيين العزل.
تكريس استمرارية الكفاح الوطني من أجل الاستقلال
ومن نتائج تلك المظاهرات الشعبية، أن كشفت مجددا حقيقة الاستعمار الفرنسي الإجرامية وفظاعته أمام العالم، كما عبرت مرة أخرى عن تلاحم الشعب الجزائري وتماسكه وتجنده وراء مبادئ جبهة التحرير الوطني، فتحطمت بذلك معنويات ديغول وأحلامه الاستعمارية، كما أقنعت تلك الأحداث هيئة الأمم المتحدة بإدراج ملف القضية الجزائرية في جدول أعمالها، حيث صوتت اللجنة السياسية للجمعية العامة لصالح القضية الجزائرية، ورفضت المبررات الفرنسية الداعية إلى تضليل الرأي العام العالمي.
وأصدرت الهيئة الأممية في 20 ديسمبر لائحة اعترفت فيها بحق الشعب الجزائري في تقرير المصير، وبذلك انقشعت سحب الأوهام، وتأكد للعالم أن جبهة التحرير الوطني هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الجزائري، لتدخل فرنسا بعد تلك الأحداث التاريخية في نفق من الصراعات الداخلية، وتعرضت لعزلة دولية بضغط من الشعوب المناصرة للحرية، الأمر الذي أجبر الجنرال “شارل ديغول” على الدخول في مفاوضات مع جبهة التحرير الوطني، كآخر خيار لإنقاذ فرنسا من الانهيار الكلي، لتسهم بالتالي تلك الأحداث في إعطاء دفع قوي لمسار المفاوضات الختامية، التي أفضت إلى استقلال الجزائر في جويلية 1962.
أمير. ع