
عاد الجدل حول موقع الذكاء الاصطناعي في تفاصيل الحياة اليومية، مع ارتفاع المؤشرات التي تؤكد أن عددا متزايدا من الأفراد باتوا يلجؤون إلى محادثة الروبوتات في مواقف محددة، بينما يتمسك آخرون بضرورة استمرار الدور البشري في مجالات لا تزال حساسة برأيهم، وقد أعاد هذا التباين النقاش إلى الواجهة في ظل توسع استخدام الوسائل الرقمية في مختلف القطاعات.
تحولات خدمة العملاء بين الواقع والتوقعات
يرى خبراء تطوير الذكاء الاصطناعي، أن قطاع خدمة العملاء سيكون من أكثر القطاعات المعرضة للتغيير، إذ يشير بعض قادة هذا المجال إلى احتمال تراجع دور الإنسان في هذا القطاع بشكل كبير مستقبلا، إلا أن الصورة الراهنة أكثر تعقيدا مما تبدو عليه من بعيد.
وقد أوضحت دراسات صادرة عن معمل الاقتصاد الرقمي في جامعة مرموقة، أن التوظيف المبكر في مراكز الاتصال شهد انخفاضا بنسبة ملحوظة منذ نهاية عام 2022 وحتى منتصف عام 2025، مما يشير إلى بداية موجة تحول جديدة.
ورغم ذلك، تؤكد جهات بحثية متخصصة أن إزالة العنصر البشري من هذا المجال بشكل كامل ليست خطوة واقعية في الوقت الحالي نظرا لفشل بعض الشركات التي حاولت الاعتماد الكامل على الأتمتة، ثم عادت لاحقا لإعادة دمج الموظفين في مسار تقديم الخدمة وتبرز هذه العودة الأسباب الحقيقية التي تجعل العملاء يتمسكون بالخدمة البشرية، لأن كثيرا منهم يرى أن الاعتماد المفرط على الآلة يرتبط بتقليل النفقات أكثر مما يرتبط بتحسين جودة الخدمة، كما تكشف التجارب الحالية أن موظفي مراكز الاتصال يواجهون اليوم مهمة غريبة وهي محاولة إقناع المتصلين بأنهم بشر وليسوا روبوتات بسبب تشابه الأساليب بين الطرفين.
نتائج غير متوقعة في المقابلات الوظيفية
وفي اتجاه آخر، تظهر دراسات أجريت في دولة آسيوية، أن استخدام روبوتات المحادثة الصوتية في المقابلات الوظيفية قد يحقق نتائج أفضل من مقابلات يجريها البشر، خاصة في الوظائف التي تتطلب مهارات منخفضة.
وقد تبين، أن المقابلات المدعومة بالذكاء الاصطناعي كانت أكثر التزاما بالأسئلة الأساسية وأكثر قدرة على جمع التفاصيل الدقيقة عن المتقدمين، مما ساعد مسؤولي التوظيف على تكوين صورة أوضح عن المتقدمين وأدى في النهاية إلى منحهم تقييما أعلى.
والمثير في هذه النتائج أن غالبية من خضعوا للمقابلات فضلوا التعامل مع الروبوت بدلا من المحاور البشري، لأنهم شعروا بأن الآلة أقل حكما عليهم وأكثر التزاما بالتعامل المتساوي مع الجميع دون انطباعات مسبقة، وقد فتح هذا التوجه الباب أمام نقاش واسع حول ما إذا كانت المقابلات المستقبلية ستتجه نحو اعتماد الروبوتات بصورة أكبر خصوصا في الوظائف التي تعتمد على جمع المعلومات الأساسية وليس التفاعل البشري العميق.
الصحة النفسية بين الراحة الرقمية والمخاطر المحتملة
أما في الجانب الصحي، وهو مجال يعد أكثر حساسية، فقد أظهرت دراسات متعددة أن شريحة واسعة من المستخدمين باتت تفضل مناقشة قضاياها النفسية مع روبوتات المحادثة بدلا من المختصين البشريين، وقد بررت هذه الفئة موقفها بأن الروبوت يمنح مساحة آمنة للتعبير دون شعور بالخجل أو الخوف من الحكم عليهم ويبدو هذا الوصف متسقا مع النتائج التي تشير إلى تحسن مؤشرات الاكتئاب لدى من استعانوا بروبوتات المحادثة، مقارنة بالمجموعات التي تلقت دعما تقليديا.
ويذهب بعض المختصين إلى أن هذه النتائج تفتح بابا مهما لتوسيع نطاق العلاج النفسي، خصوصا للذين يواجهون صعوبة في الوصول إلى أخصائيين أو الذين يخشون التحدث أمام شخص حقيقي، إلا أن الصورة ليست خالية من القلق فقد جرى تسجيل حالات نادرة أثارت مخاوف كبيرة من بينها نمط من التدهور النفسي المرتبط بالإفراط في محادثة نماذج الذكاء الاصطناعي، إضافة إلى حادثة انتحار لمراهق بعد سلسلة تفاعلات مطولة، مما أعاد النقاش حول ضرورة وضع معايير صارمة لحماية المستخدمين من المخاطر غير المتوقعة.
وتكشف هذه التحولات مفارقة لافتة، إذ قد يرفض المستخدم التفاعل مع روبوت لحل مشكلة بسيطة في اتصال هاتفي، ثم يتجه بإرادته الكاملة لمشاركة أصعب تفاصيله النفسية مع روبوت محادثة ويشير الخبراء إلى أن الفارق هنا يكمن في نوع المهمة وفي حرية الاختيار الممنوحة للمستخدمين وليس في قدرات الروبوت وحدها، ومع استمرار تطور تقنيات المحاكاة العاطفية يبقى السؤال معلقا حول مستقبل العلاقة بين الإنسان والآلة، وهل سيتحول الحديث مع الروبوت إلى خيار مألوف وربما مفضل أم سيظل الاعتماد على البشر حاجة أساسية لا يمكن الاستغناء عنها.
ياقوت زهرة القدس بن عبد الله



