تكنولوجيا

انهيار الشبكة العنكبوتية.. عندما تتحكم شركة واحدة بمصير العالم الرقمي

شهد العالم مؤخرا واحدة من أضخم حالات الانقطاع التقني خلال الأعوام القليلة الماضية، وذلك نتيجة عطل فني كبير ضرب مركز معالجة بيانات تابع لشركة أمازون المتخصصة في تقديم الخدمات السحابية، يقع هذا المركز في ولاية فيرجينيا الأمريكية، ويعد المنشأة الأساسية في البنية التحتية الرقمية للشركة العملاقة، حيث تعتمد عليه آلاف الخدمات الإلكترونية حول العالم.

 

امتدت آثار هذا العطل لتشمل آلاف المواقع الإلكترونية والتطبيقات الذكية بنسب متفاوتة عبر دول العالم، بدءاً من منصات التواصل الاجتماعي مثل واتساب وسناب شات، ومروراً بالمنصات الذكية مثل شات جي بي تي، ووصولاً إلى أدوات العمل عن بعد مثل زوم، كما تأثرت منصات الألعاب الإلكترونية مثل فورتنايتوكلاش أوف كلانز، وخدمات البث الترفيهي مثل ديزني بلس، وشركات الطيران مثل دلتا ويونايتد، والخدمات المالية مثل فينم وروبن هود، والمواقع الإخبارية مثل نيويورك تايمز، بالإضافة إلى مواقع حكومية بريطانية وشركات اتصالات مثل فودافون.

 

جذور الأزمة التقنية

أرجعت الشركة العملاقة سبب هذا العطل إلى خلل تقني في نظام أسماء النطاقات داخل واجهات برمجة التطبيقات الخاصة بقاعدة البيانات الديناميكية في مركز البيانات الرئيسي بولاية فيرجينيا، مما أدى إلى فشل الأنظمة في التعرف على العناوين الصحيحة للخوادم السحابية، يشبه نظام أسماء النطاقات دليل الهواتف الرقمي الذي يربط عناوين المواقع الإلكترونية بالأرقام الرقمية الخاصة بها، وأي خلل فيه يؤدي إلى انقطاع الاتصال بين التطبيقات والخوادم الرئيسية.

أكدت الشركة أنها قامت بتطبيق إجراءات أولية للتخفيف من حدة الآثار، ثم أعلنت لاحقاً عن معالجة الخلل التقني الأساسي، مع الإشارة إلى أن بعض الخدمات تحتاج إلى وقت إضافي للعودة إلى عملها الطبيعي، ورغم الانتشار الواسع للعطل الذي أصاب خدمات أمازون السحابية على المستوى العالمي، فإن تأثيره في المنطقة العربية بقي محدوداً مقارنة بدول أوروبا وأمريكا الشمالية.

 

المنطقة العربية وتأثير العطل المحدود

رصدت العديد من المنصات التقنية شكاوى مستخدمين عرب عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أفادوا فيها بمواجهة بطء ملحوظ أو انقطاع مؤقت في الوصول إلى بعض التطبيقات العالمية التي تعتمد في بنيتها الأساسية على خوادم أمازون السحابية، مثل تطبيقات التواصل الاجتماعي وبعض الألعاب الإلكترونية وبعض الخدمات التابعة لأمازون مثل أليكسا، لكن هذه الخدمات عادت إلى العمل تدريجياً مع تحسن أداء تلك المنصات عالمياً بعد ساعات من بداية الأزمة.

لم تشهد الخدمات المحلية والبنى التحتية الحكومية تأثيراً مباشراً يذكر، ويعود ذلك إلى اعتمادها على مراكز بيانات إقليمية وشبكات احتياطية منفصلة عن مركز فيرجينيا المتأثر، أوضح مختصون في قطاع الاتصالات أن سبب التأثير المحدود في الدول العربية والشرق الأوسط يعود إلى اعتماد العديد من المنصات الإقليمية على خوادم محلية أو خوادم أقرب جغرافياً، مما خفف من حدة التأثير المباشر للعطل الأمريكي.

لم تصدر أي بيانات أو تعليقات رسمية بشأن العطل من الجهات الحكومية أو المؤسسات العامة في المنطقة العربية، مما يؤكد محدودية تأثيره في عمل الخدمات والبنى التحتية بالمنطقة، مثل البنوك والمطارات وأنظمة الملاحة وغيرها، يسلط هذا الحدث الضوء على أهمية تعزيز الاستقلال الرقمي وبناء بنية سحابية محلية قادرة على الاستمرار في العمل حتى عند حدوث أعطال عالمية.

 

الاستقلال الرقمي وبناء المناعة التقنية

مع استبعاد فرضية الهجوم الإلكتروني، حيث أكدت الشركة أن الخلل كان تقنياً بحتاً ومرتبطاً بنظام أسماء النطاقات في مركز بياناتها بولاية فيرجينيا الأمريكية، فإن الحادث أثار جدلاً واسعاً حول هشاشة البنية الرقمية العالمية، والاعتماد المفرط على مزودات سحابية مركزية، كشف الانقطاع الواسع في خدمات أمازون السحابية عن مدى هشاشة البنية الرقمية العالمية.

أظهر العطل الأخير أن الاعتماد الكبير على مزودات سحابية محدودة يجعل الإنترنت أكثر عرضة للأعطال المتسلسلة والانهيارات المفاجئة، بينت التحليلات التقنية أن الخلل لم يكن مجرد مشكلة في التشغيل، بل مست سلامة البيانات نفسها، مما كشف عن ضعف في نزاهة البنية التحتية الرقمية، يتفق الخبراء على أن معظم الشركات حول العالم تفتقر إلى خطط طوارئ فعالة.

رغم أن الخدمات السحابية المركزية توفر كفاءة وأماناً مرتفعين، فإنها في الوقت نفسه تجعل أي انقطاع فردي ذا تأثير مضاعف على نطاق عالمي، يمتد من مواقع الويب إلى الأنظمة المصرفية وخدمات الاتصالات، يعد العطل في مركز بيانات فيرجينيا التابع لأمازون الحادثة الثانية الكبرى خلال أربع سنوات.

تعكس هذه الحادثة خطورة الاعتماد على مراكز محددة تعد نقاط ارتكاز لشبكات عالمية مترابطة، هذه الترابطية المفرطة تجعل أي خلل بسيط في خادم واحد قادراً على شل قطاعات حيوية كاملة، تذكر الحادثة الأخيرة بأزمة كراودسترايك في تموز يوليو 2024.

حينها تسبب تحديث غير صحيح لأداة أمنية واحدة بتوقف ملايين الحواسيب حول العالم، في أزمة فاقت إلى حد بعيد أزمة الخلل الأخير في خوادم أمازون، مما أدى إلى تعطّل مطارات ومستشفيات وبنوك وشركات طيران كبرى، كانت تلك الواقعة إنذاراً واضحاً بأن العالم الرقمي أصبح موحداً إلى درجة تحول الخطأ الفردي إلى أزمة عالمية.

مع إعلان أمازون احتواء الخلل بالكامل، فإن ما حدث أعاد النقاش حول ضرورة بناء استراتيجيات رقمية أكثر مرونة وتوزيع أفضل للبيانات والخدمات السحابية عبر مناطق متعددة، لتجنب تكرار أزمات مماثلة قد تكلف الشركات مليارات الدولارات، في العالم العربي، تابعت الحكومات والمؤسسات التقنية هذه الحادثة وما سبقها بقلق متزايد.

يعود هذا القلق إلى اعتماد العديد من الخدمات الحكومية والخاصة على البنى التحتية السحابية لمزودين عالميين مثل أمازون ومايكروسوفت وجوجل، رغم أن تأثير الخلل الأخير كان محدوداً مقارنة بحادثة كراودسترايك العام الماضي، فإن الحادثة أعادت طرح سؤال جوهري حول مدى قدرة المنظومات الرقمية العربية على الصمود أمام خلل عالمي مماثل.

تشكل هذه الأزمات فرصة حقيقية لإعادة التفكير في سياسات التحول الرقمي، من خلال الاستثمار في مراكز بيانات محلية وتطوير استراتيجيات سيادة رقمية تقلل الاعتماد على الخارج، بدأت بعض الدول العربية بالفعل بتوسيع شراكاتها الإقليمية لبناء بنى تحتية سحابية مستقلة.

تمكن هذه البنى من استضافة البيانات الحساسة محلياً وتمنح الحكومات قدرة أكبر على إدارة المخاطر الرقمية، ربما يكون أبرز الدروس المستفادة من خلل أمازون الأخير هو أن التحول الرقمي لا يكتمل بالاعتماد على التكنولوجيا وحدها، بل يحتاج إلى رؤية متكاملة توازن بين الكفاءة والأمان والقدرة على الصمود أمام الاضطرابات التقنية المفاجئة.

 ياقوت زهرة القدس بن عبد الله 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى