تكنولوجيا

بين الواقع والانحياز.. كيف أحدث الذكاء الاصطناعي تحولا في صناعة الإعلام؟

يبدو أن الذكاء الاصطناعي أصبح القوة المحركة الجديدة لعالم الإعلام والأخبار، حيث يقوم بتوظيف الخوارزميات والبرامج الذكية لأداء مهام كانت تحتاج إلى ذكاء إنساني، بدء من أتمتة العمليات الروتينية مثل تحرير النصوص وتنظيم البيانات، ووصولا إلى المساعدة في البحث والتحقق من الحقائق بسرعة ودقة غير مسبوقتين، ومع ذلك لا يهدف الذكاء الاصطناعي إلى إزاحة الصحفي الإنسان، بل إلى تمكينه ومساعدته، حيث يمنحه وقتاً أطول للتركيز على القصص التحليلية المتعمقة وإنتاج محتوى أكثر تأثيرا.

 

وبينما يسرع هذا التغير إنتاج الأخبار ويعمق طرق معالجتها، فإنه يفتح في نفس الوقت نقاشاً واسعاً حول المصداقية والأخلاقيات وحدود الاعتماد على الآلة في رواية الحقيقة، وتظهر تحديات مهمة تتعلق بدقة المعلومات وموثوقيتها وإمكانية ظهور تحيزات خفية في المحتوى الناتج عن الذكاء الاصطناعي.

 

كيف يعيد الذكاء الاصطناعي تشكيل العمل الإعلامي؟

بعد أن أصبح الذكاء الاصطناعي شريكا أساسيا للصحفيين، بدأ يغير طريقة إعداد التقارير الإخبارية بشكل ملحوظ، ومن أهم عناصره معالجة اللغة الطبيعية التي تمكن الحواسيب من فهم لغة البشر، مما يساعد العاملين في المجال الإعلامي على تحليل كميات هائلة من البيانات بسرعة، واكتشاف الاتجاهات، وإعداد تقارير دقيقة.

كما يساهم التعلم الآلي في تعزيز هذه المهام، حيث يسمح للخوارزميات بالتعلم من المعلومات السابقة والتنبؤ بالنتائج المستقبلية، وهذا مفيد بشكل خاص في الصحافة الاستقصائية، حيث يكشف عن قصص خفية داخل بيانات معقدة، وللفهم الأفضل لهذا التأثير يمكن النظر في أبرز الطرق التي ساعد بها الذكاء الاصطناعي في تطوير العمل الإعلامي.

قامت أدوات الذكاء الاصطناعي بتغيير طريقة عمل غرف الأخبار، حيث تسمح أتمتة المهام البسيطة مثل جمع المعلومات وإعداد التقارير الأساسية للصحفيين، بالتركيز على القصص الأكثر تعقيداً التي تحتاج إلى مهارات التفكير النقدي وفهم السياق، وهذا لا يجعل العمل أكثر سهولة فقط، بل يساعد المؤسسات الإعلامية على تلبية الطلب المتزايد على المحتوى.

يسمح الذكاء الاصطناعي بمعالجة كميات هائلة من المعلومات بسرعة، مما يجعل كتابة المقالات أسرع من البشر، خاصة في الأخبار السريعة مثل التقارير المالية أو التحديثات الرياضية، كما يمكنه مراجعة مصادر متعددة في وقت واحد، مما يتيح تقديم محتوى أكثر تنوعاً وتغطية مواضيع أوسع للقراء.

تعتمد الصحافة الجيدة على مصادر متنوعة لتقديم رؤية متوازنة، وفي هذا الإطار تساعد أدوات الذكاء الاصطناعي في تقليل الانحياز من خلال التعامل مع مصادر متعددة وتحقيق عدالة المعلومات، ومع كل هذه القدرات في تسريع العمل وتحسين التغطية، تبرز أيضا تحديات مهمة تتعلق بدقة المعلومات وموثوقيتها، وكذلك إمكانية ظهور تحيزات خفية في المحتوى الناتج عن الذكاء الاصطناعي.

 

بين الدقة والانحياز في عصر الذكاء الاصطناعي

لقد غير الذكاء الاصطناعي طريقة عمل الصحفيين، بل وحتى طريقة حصول الجمهور على الأخبار، كما ساعدت النماذج التنبؤية على تحليل اهتمامات الجمهور وتوقع توجهاتهم، مما مكن المؤسسات الإعلامية من إنتاج معلومات أكثر ملاءمة وارتباطاباهتمامات القراء، ومن أبرز الأمثلة على ذلك استخدام أدوات استطاعت توقع انتشار أمراض مثل كوفيد-19 من خلال تحليل البيانات المستخلصة من التقارير الإخبارية وأنماط السفر.

كما تستخدم أدوات التنبؤ بالمخاطر في التغطية الصحية لتقدير احتمالات تفشي الأمراض بالاعتماد على عوامل مثل تغير المناخ والكثافة السكانية، بالإضافة إلى ذلك، ساهمت تقنية معالجة اللغة الطبيعية في إنتاج أخبار دقيقة وسريعة تتعلق بالمواضيع الصحية، حيث تمكن الصحفيين من تبسيط نتائج الدراسات الطبية المعقدة وتحديث التوجيهات الصحية العامة بلغة مفهومة وسريعة الانتشار.

وتسرع هذه التطورات بدون شك العمل وتزيد من دقته، لكنها في نفس الوقت تعيد تشكيل المفاهيم التقليدية حول كيفية إنتاج الأخبار ونشرها، لتطرح أمام الصحافة أسئلة جديدة عن المصداقية والتحقق وحدود تدخل الآلة في صياغة الحقيقة، فبالرغم مما يقدمه الذكاء الاصطناعي من إمكانات مذهلة، فإن القلق يزداد بشأن الدقة والموثوقية والانحياز في الأخبار المنتجة بواسطته.

ويتمثل القلق الأول في دقة الكتابة بالذكاء الاصطناعي، حيث تعتمد أدوات الكتابة الذكية بشكل كبير على البيانات التي تحصل عليها وطريقة تصميمها، لذلك قد تفشل أحياناً في فهم المعاني الضمنية أو الأفكار العميقة، مما يجعل المحتوى أقل دقة، وعلى سبيل المثال، قد يجد الذكاء الاصطناعي صعوبة في فهم السخرية أو التهكم، وهو ما قد يسبب أخطاء في نقل المعنى المقصود أو في تفسير تصريحات حساسة.

أما القلق الثاني، فهو أن موثوقية الأخبار المنتجة بالذكاء الاصطناعي تعتمد على جودة وخلفية البيانات التي تم تدريب النموذج عليها، فإذا كانت البيانات منحازة أو غير متوازنة، فستظهر هذه الانحيازات في النتائج، مما يجعل المحتوى أقل موثوقية، وعلى سبيل المثال، يمكن أن تقدم أدوات مثل شات جي بي تي وكلود وجيميناي معلومات متحيزة إذا كانت بيانات تدريبها متحيزة، وكذلك الحال مع أدوات أخرى مثل بارد ودال إي ولاما 2، حيث تعتمد دقتها وموضوعيتها على جودة البيانات التي تعلمت منها.

 

التوازن بين التكنولوجيا والأخلاقيات الإعلامية

رغم هذه التحديات، يمكن اتخاذ خطوات للتقليل من الأخطاء والتحيزات في الكتابة بالذكاء الاصطناعي، مثل مراجعة البشر للمحتوى، حيث تساعد مراجعة الصحفيين للنصوص التي ينتجها الذكاء الاصطناعي قبل النشر في كشف الأخطاء أو التحيزات الواضحة، وتعيد للمحتوى حسّه الإنساني، ورصد الانحياز في الذكاء الاصطناعي، حيث يقلل استخدام أدوات ذكية لكشف وتصحيح التحيز في بيانات التدريب من إنتاج تقارير منحازة.

وعلى سبيل المثال، بعض النماذج الحديثة مثل شات جي بي تي 5 وكلود 4 سونيت تمتلك خصائص متقدمة في اكتشاف هذا النوع من التحيز، واستخدام أدوات متعددة للتحقق من الحقائق، حيث تسمح مراجعة المعلومات عبر أكثر من نموذج ذكاء اصطناعي بالمقارنة بين مصادر مختلفة، مما يزيد الموثوقية، ومن الأفضل الاعتماد على الإصدارات الأحدث مثل شات جي بي تي 5 لضمان تحقق شامل من الحقائق.

لا تقتصر تساؤلات الدقة والموثوقية على الجوانب النظرية فقط، بل تجسدت في حالات واقعية أثارت نقاشاعالميا واسعا حول حدود الذكاء الاصطناعي في العمل الصحفي، ومن أبرز هذه الحالات قرار شركة أوبن إيه آي تقييد إصدار نموذجها اللغوي المتقدم جي بي تي 2 في البداية، خوفاً من استخدامه في نشر معلومات مضللة أو أخبار زائفة، ثم المواقف المشابهة التي صاحبت تطوير النماذج الأحدث مثل شات جي بي تي 5 التي وصفت بأنها قادرة على إنتاج نصوص مقنعة يصعب تمييزها عن الكتابة البشرية.

وبينما رأى البعض أن تقييد النشر خطوة مسؤولة لتجنب إساءة الاستخدام، اعتبر آخرون ذلك شكلا من الرقابة الذاتية التي قد تبطئ التقدم في هذا المجال، ولم يتوقف الجدل عند هذه الشركات، حيث أثار ظهور المذيع الإخباري الذي طورته وكالة شينخوا الصينية نقاشاواسعا حول ما إذا كان حقيقيا أم مجرد محاكاة رقمية بالكامل، فقد رأى البعض فيه ثورة تقنية في تقديم الأخبار، بينما عبر آخرون عن قلقهم من أن يؤدي إلى تراجع الثقة بالمصادر الإخبارية أو استبدال المذيعين البشر تدريجياً.

أما في العالم الصحفي الغربي، فقد تصاعد الجدل بعد حادثة أثارتها أداة الكتابة الآلية رايتسونيك، فبعد فوز الفيلم الوثائقي “نافالني” بجائزة الأوسكار لأفضل فيلم وثائقي، نشر موقع “ذا غرايزون” مقالا للصحفية “لوسي كوميزار” ينتقد الفيلم بشدة، لكن سرعان ما اكتشف أن المقال احتوى على روابط ومراجع غير صحيحة، ليتبين لاحقاً أنه كتب بالكامل باستخدام الذكاء الاصطناعي، وقد أعاد هذا الحادث النقاش حول مسؤولية التحقق والمراجعة التحريرية عند استخدام أدوات الكتابة الذكية في إعداد المحتوى الصحفي.

وتسلط هذه الحالة الضوء على التحول الكبير الذي يشهده الإعلام المعاصر، حيث لم يعد التحدي في استخدام الذكاء الاصطناعي فحسب، بل في كيفية استخدامه بطريقة تحافظ على الثقة والمصداقية، ومع تزايد الاعتماد على النماذج الذكية في جمع الأخبار وصياغتها، تزداد الحاجة إلى نقاشات مستمرة حول أخلاقيات المهنة الصحفية وحدود المسؤولية التحريرية، لضمان بقاء الحقيقة في صميم العمل الإعلامي رغم سرعة التطور التقني.

في الختام، يبقى العقل الإبداعي البشري حجر الأساس في الصحافة، فهو القادر على التفسير والتحليل وربط الأحداث ببصيرة واسعة المدى، وهو الذي يمتلك القدرة على استيعاب السياق الاجتماعي والثقافي والسياسي لكل قصة، ولا يمكن لأي خوارزمية أو نموذج ذكاء اصطناعي أن يضاهي قدرة الصحفي على التعلم من البيئة والتفاعل الواقعي مع الأحداث، أو الإحساس بالفروق الدقيقة بين الحقيقة والرأي، وبين السخرية والتلميح، وبين الظاهر والمضمون.

 ياقوت زهرة القدس بن عبد الله 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى