
يعتبر السيد “سيد احمد بلعيدوني” أصيل ولاية مستغانم، من أندر الأشخاص الذين يقومون بجمع اللوحات القرآنية في العالم الإسلامي، فهو يملك ما يفوق 200 لوحة قرآنية من مختلف المدارس القرآنية بإفريقيا، ويطمح لجمع المزيد من باقي دول العالم الإسلامي، خاصة وأن اللوحات القرآنية تختلف في كتابتها وتزيينها بعد الختم من مدرسة (الكتّاب) لأخرى حسب كل طريقة دينية إسلامية.
ولمعرفة سبب شغفه بهذه العملية الفريدة، تواصلت معه جريدة “البديل”، وكانت لها هذه الدردشة الخفيفة:
كيف جاءتك فكرة جمع اللوحات القرآنية؟
أهلا، أنا ابن المدرسة القرآنية، فقد تعلمت أبجديات القراءة والكتابة في المدرسة القرآنية بمنطقة “تيجديت” بمستغانم، قبل أن ألتحق بالمدرسة الابتدائية، وقد تركت اللوحة القرآنية التي تركها عمي “تواتيبلعيدوني” قبل استشهاده أثرا فيّ، فقد حافظ عليها جدي (والده)، كذكرى، خاصة وأنه استشهد شابا ولم يتزوج، كان في عمر الثلاثينات، حين قبض عليه الجيش الفرنسي الاستعماري، بعد فترة من مراقبته وتتبعه، لأنه كان فدائيا، وكثيرا ما يغيب بالأيام عن البيت، لأنه يقوم بالعمليات الفدائية في مناطق مختلفة، واكتشف أمره من طرف العسكر الفرنسي، فأصبح يداهم مسكن جدي باحثا عنه، غير أنه تم القبض عليه بمنطقة أخرى غير منطقتنا، وزج به في محتشد “سيدي علي” العسكري، لتختفي أخباره فيما بعد، وإلى اليوم لا نعرف مصير جثته ولا أين قبره.
وبعد وفاة جدي، وعند تقسيم الورث، طالبت باللوحة القرآنية لعمي وقد كان لي ذلك، بعدها انطلقت في جمع اللوحات، وأصبحت مهتما خاصة بطريقة تزيينها التي تختلف من لوحة إلى أخرى.
كيف السبيل لجمع هذا الكم من اللوحات؟
الأمر ليس بسيطا، لكنه في نفس الوقت ليس صعبا، قد يصادف أن أتواجد بمكان أو فضاء، فأقشع لوحة قرآنية، أسأل عن صاحبها، وأطلب منه تمكيني منها، وأحيانا أضطر لخوض مفاوضات عسيرة من أجل إقناع صاحبها، وأكون الرابح. وفي أحيان أخرى، أكلف أصدقائي في قطاع السياحة والصناعات التقليدية، الذين يشاركون في معارض خارج الجزائر خاصة بالدول الإسلامية ببذل مجهود وجلب لوحة قرآنية أو أكثر عند عودتهم. وبهذه الطريقة تمكنت من تجميع من يفوق 200 لوحة قرآنية.
هل أتحت فرصة للناس، للاطلاع على هذا المخزون النادر؟
لقد حالفني الحظ في سنة 2012، تم تنظيم معرض بولاية مستغانم، كنت وقتها لازلت أشغل منصب مدير السياحة والصناعة التقليدية لولاية وهران.
حيث جاءتني الفكرة، فتواصلت مع صديق لي، كانت علاقتنا قد انقطعت لأكثر من 20 سنة،هو الصديق “كريم مراد بن تونس”، شقيق “خالد بن تونس”، ويعتبر الرقم الثاني في الزاوية العلوية. أعجب بالفكرة ورحب بها شقيقه “الشيخ خالد”.نضجت الفكرة،وتم برمجتها خلال شهر رمضان الكريم، وشملت معرضا للوحات القرآنية ومسابقة لأجمل لوحة (خطا وتزيينا)، إضافة إلى محاضرة في السياق، وقد شارك في التظاهرة ما يعادل 30 مشاركا من مختلف كتاتيب ولاية مستغانم، بأكثر من 100 لوحة قرآنية.
لقد كانت تظاهرة رائعة وناجحة، لأنها عرفت حضور قراء ودعاة ومشاييخ من مختلف الدول الافريقية (تونس، ليببا، ماليوالنيجر…)، الذين كانوا يصومون شهر رمضان في ضيافة الزاوية العلوية للدراسة والتهجد والتعبد، كما عرفت توافدا لسكان مستغانم من الكبار الذين تذكروا طفولتهم والصغار الذين اطلعوا على الطريقة التي كان يتم بها التدريس في الماضي، خاصة وأن طريقة التدريس تغيرت اليوم إلى اللوحة الذكية .
إذا ممكن أن تروي لنا كيف يتم الاحتفال بحفظة القرآن؟ وهل مازال قائما إلى اليوم؟
للأسف، جمالية الاحتفال وقدسيته اندثرت بمرور الوقت، والتغير في طرق الحفظ والتدريس بالمدارس القرآنية التي أصبحت تواكب التطور العلمي الحاصل.
فقد أصبح اليوم الطفل، يدرس عبر اللوحة الالكترونية، أو اللوحة الفحمية والطباشير، ولم يعد يحتفى به خارج جدران المدرسة القرآنية، أو بالمساجد…بينما كان في الماضي حافظ القرآن الذي يسمى “قندوزا”، يحفظ القرآن عبر اللوحة الخشبية، التي يزينها له شيخه الذي يدرسه، بعد نهاية حفظه للقرآن الكريم، بطريقة خاصة يستعمل فيها ألوانا وزخارف جميلة، ويمنحه عطلة أسبوع، يتجه فيها إلى بيته، لأن الكثير من حفظة القرآن كانوا يبقون بالمدارس القرآنية لبعدها عن بيوتهم، وعندما يصل بيته، يرتدي “القندوز” عباءة بيضاء ناصعة، وينطلق في التنقل بين البيوت يجمع ما يوجد به السكان عليه من أموال، كتكريم وفرح بقدرته على الحفظ وتشجيعا له على مواصلة الاهتمام بالقرآن الكريم.
وعند نهاية الأسبوع، يجمع “القندوز” تلك الأموال ويأخذها إلى شيخه، كتكريم له على المجهود الذي بذله معه ومساعدته له لحفظ كتاب الله تعالى، كما يأخذ معه ما لذ وطاب من طعام لزملائه، الذين مازالوا يحفظون القرآن.
ما هي أدوات الحفظ القرآني؟
في الماضي، كان لحفظ القرآن نكهة خاصة و فريدة ومتميزة، عكس اليوم، الذي طغت فيه التكنولوجيا، وأصبح الأمر يسيرا وسهلا وبلا مجهود يدوي يذكر، يكفي أن تضغط على زر حتى تظهر الآية أو السورة أمامك، ويمكنك سماعها وترديدها مع اختيار الطريقة التي تناسبك. بينما كنا في الماضي نقوم بشراء الأدوات اللازمة للحفظ، وقد يصادف أن يدرس في نفس اللوحة الخشبية الجد والوالد والابن، فهي توَرَّث في العائلة و يحافظعليها ككنز نادر.
و تتكون أدوات الحفظ من:
ـ اللوحة: تصنع من الخشب وأجودها خشب شجرة العرعار.
ـ الصلصال: نوع من الطين، يتم طلي اللوحة به ويعرض للشمس حتى يجف، لتتم الكتابة عليه. وقد ذكر في القرآن الكريم، بعد بسم الله الرحمن الرحيم: “من صلصال كالفخار…”، صدق الله العظيم.
ـ القلم: يصنع من القصب، وأجوده القصب الحر أو الحلو.
ـالمداد: يصنع من عملية حرق للصوف الخاص بذيل الكبش، فينتج سائلا يوضع فيما يعرف بالدواية، ويكون لونه تبعا لمخلفات الكبش الملتصقة بصوف الذيل.
بينما تكون الكتابة في بداية التحاق “القندوز” بالكتّاب أو المدرسة القرآنية من طرف الشيخ، الذي يقوم بكتابة الآية بظهر القلم بطريقة مخففة جدا، حتى يعيد “القندوز” الكتابة فوقها إلى غاية تمكنه من الخط، وهنا كل شيخ وله طريقة كتابة معينة.
وبعد حفظ “القندوز” لما هو مكتوب على اللوحة يمحيها بطريقة خاصة، وهي جلب الماء والتوجه نحو جذع إحدى الأشجار المتواجدة بالمدرسة القرآنية وغسل اللوحة، حتى لا يرمى في أماكن عامة يصلها قدم الإنسان أو الحيوان او تتسخ بنفايات، ثم تطلى اللوحة من جديد وتعرض للشمس حتى يجف، ينتظرها صاحبها حتى تجف، ثم يضعها جانبا داخل المدرسة ويغادر إلى بيته ليعود في اليوم الموالي، أما الذين لم ينهوا الحفظ فهم ملزمون بالبقاء إلى نهاية اليوم، وعند انتهائه من الحفظ ويختم القرآن الكريم يقوم شيخه بتزيينها بزخارف وألوان مختلفة يستعمل فيها موادا تجميلية كالمغرة، القهوة، الرمان وغيرها من الألوان الجميلة.
برأيكم، ما الفائدة من حفظ القرآن الكريم على اللوحة الخشبية بتلك الطريقة؟
هو سؤال مهم، مازال يبحث فيه بمختبرات الغرب، بينما اللوحة الخشبية تملك سر الحفظ ونجاحه وسرعته لدى الحافظ.
فاللوحة الخشبية قبل أن تضم سر الحفظ، هي من الأدوات الإيكولوجية التي تحافظ على البيئة وسلامتها، كما أنها تملك معجزة وهي أنها تسمح بكتابة وحفظ 60 حزبا بصفر (0) ورقة، كما أن طريقة جلوس “القناديز” بالمدرسة القرآنية (على الأرض وثني أرجلها ما يعرف بالتربيعة أي يربعوا أو يكفلوا)، وطريقة الحفظ التي تعتمد على ميلان الجذع العلوي الذي يسمح باهتزاز الرأس، تعتبر معجزة في الحفظ، فهي تساعد على الحفظ بسرعة وهدوء.
والمعجزة الأكبر، أن الطفل يستطيع حفظ 60 حزبا دون ورقة ودون الرجوع لشيء مكتوب في ظرف قياسي، وهو لم يبلغ العاشرة من عمره في الغالب، ما يجعلنا نقف عاجزين أمام قدرة الخالق سبحانه وتعالى وعظمته عن حجم الذاكرة التي تسمح بحفظ القرآن كاملا، وهو ما يعمل عليه الباحث في الغرب الذي يحاول تقليد الذاكرة البشرية، إلا أنه في كل مرة ينتج ذاكرة اصطناعية يجدها محدودة الحجم وغير كافية لحفظ الكثير من المعلومات، بينما ذاكرة الفرد تتسع لأضعافها من المعلومات والمعطيات.
كيف يمكننا الحفاظ على الطريقة القديمة لحفظ القرآن الكريم؟
نستطيع الحفاظ على الطريقة القديمة، من خلال جعلها منهجية في بداية التحاق الطفل بالمدرسة القرآنية، حتى يتعلم الخط وأبجدياته، وتحمل مسؤولية مسحها وطلائها، لينتقل إلى الطريقة الحديثة المعتمدة كاللوحة الفحمية أو الرصاصية وكذا اللوحة الإلكترونية،كما نستطيع أيضا من خلال مسابقات للوحات وكذا معارض تقدم ما كان يعتمد عليه في الماضي، من أجل الحفظ وإقامة الندوات والمحاضرات، لأن هذا الجانب يعتبر شاسعا وفضاء خصبا للبحث والتنقيب عن أسراره ليس فقط بكتاتيب الجزائر، بل في العالم الإسلامي أجمع.
كلمة أخيرة؟
أشكر جريدة “البديل” التي ألقت الضوء على موضوع هام في تراثنا الإسلامي وهويتنا، ولكنه مازال مهمشا، وهو ما ندعو إلى تبنيه والاهتمام به أكثر.
حاورته: ميمي قلان