
في قلب ولاية المنيعة، وتحديدا بحي بادريان، تبرز ابتدائية “بلجودي علال”، كنموذج حي لمؤسسة تعليمية قررت أن تتجاوز حدود التلقين التقليدي، لتصبح مشروعا مجتمعيا متكاملا، فمنذ تأسيسها عام 1988، أخذت المدرسة على عاتقها مهمة مزدوجة: تربية الأجيال علميا وحمايتهم صحيا ونفسيا، وهو ما جعلها اليوم تحظى بإشادة واسعة من مختلف الفاعلين في قطاعي التربية والصحة.
توسعة بيداغوجية وبنية تحتية متجددة
لم تكتفِ المدرسة بأداء دورها التعليمي الكلاسيكي، بل استثمرت في تحسين بنيتها التحتية بشكل مستمر، فبعد أن استفادت من برامج التوسعة الوطنية، أضافت المؤسسة أقساما جديدة، مع مخطط لفتح 4 أقسام إضافية هذا العام، في خطوة من شأنها استيعاب عدد أكبر من التلاميذ وتخفيف الضغط على الفصول الدراسية.
وإلى جانب ذلك، تحرص الإدارة بقيادة” قندور نعيمة” على حملات نظافة وتجديد دورية، جعلت من المدرسة فضاء جاذبا، نظيفا وآمنا، يعكس صورة مغايرة عن المدارس التقليدية في المناطق النائية.
صحة التلميذ في قلب الرؤية التربوية
غير أن ما يميز “بلجودي علال” حقا، هو دمجها للبعد الصحي في رؤيتها التربوية، فمنذ اليوم الأول للدخول المدرسي، تحرص المؤسسة على توفير وجبات ساخنة وصحية، خالية من المواد الحافظة والأطعمة غير المفيدة، لتشجيع التلاميذ على الغذاء السليم.
وتجلى هذا الاهتمام أكثر في تنظيم أيام تحسيسية صحية، بالتعاون مع أطباء ومختصين من قطاع الصحة العمومية، حيث تناولت الورشات مواضيع أساسية مثل: أخطار التدخين والمخدرات على مستقبل الأطفال، أهمية النظافة الشخصية وتأثيرها المباشر على التحصيل الدراسي، صحة الفم والأسنان وطرق الوقاية من التسوس والمخاطر النفسية المرتبطة بإدمان الأجهزة الإلكترونية.
شهادات من الميدان
في تصريح لجريدة “البديل”، أكد الدكتور” ربيعي عبد الله”، طبيب عام بمصلحة الوقاية، أن هذه الفعاليات “تزوّد التلاميذ بأساس معرفي ووقائي يحميهم من الانحرافات الصحية والاجتماعية”، مشيدا بالتفاعل الكبير للتلاميذ مع الورشات التثقيفية.
أما الدكتورة “قواسم فطيمة”، طبيبة الأسنان المشاركة في الحملة، فقد شددت على أن “الوقاية تبدأ من الطفولة”، مؤكدة أن غرس عادات صحية مثل غسل الأسنان بانتظام وتقليل استهلاك الحلويات يضمن مستقبلا صحيا أفضل.
من جهتها، أوضحت الأخصائية النفسية “أولاد علي صباح”، أن “الجانب النفسي جزء لا يتجزأ من العملية التعليمية”، مشيرة إلى أن ورشاتها ركزت على أثر العادات الصحية والتوازن النفسي في تعزيز التركيز والتحصيل الدراسي.
في السياق ذاته، عبّرت “بلوبر عمورة”، منسقة البيولوجيا بقطاع الصحة العمومية، عن إعجابها بالتحضير والتنظيم الذي وصفته بـ”العرس الصحي”، مشيرة إلى أن النجاح الذي حققته المدرسة في فترة وجيزة يعكس جدية الإدارة والتعاون المثمر بين الأطقم التربوية والصحية وأولياء الأمور.
برنامج صحي يتجاوز حدود المدرسة
الأهمية الكبرى لهذه التجربة تكمن في أنها لم تتوقف عند أسوار ابتدائية “بلجودي علال”، بل اندمجت ضمن برنامج صحي موسع يغطي مدارس ابتدائية ومتوسطات وثانويات في المنيعة وحاسي القارة وحاسي الفحل.
ووفقاً للأخصائية النفسية “أولاد علي صباح”، فإن هذا البرنامج يهدف إلى “ترسيخ ثقافة صحية وقائية لدى التلاميذ والطلاب عبر مختلف المراحل”، لافتة إلى أنه يشمل موضوعات تتعلق بالتغذية السليمة، محاربة المخدرات، والاستخدام الواعي للتكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي.
كل هذه الجهود تجعل من ابتدائية “بلجودي علال” مدرسة استثنائية بمقاييس محلية ووطنية، حيث أثبتت أن المدرسة ليست فقط مكاناً للتعلم، بل فضاءً للحياة المتوازنة. إنها رؤية تؤكد أن التنمية البشرية تبدأ من مقاعد الدراسة، وأن بناء جيل واعٍ ومحصّن يتطلب الجمع بين التربية والتعليم والصحة في معادلة واحدة.
البعد الوطني للتجربة
إن ما تقدمه ابتدائية “بلجودي علال” لا يمكن النظر إليه بمعزل عن الرؤية الوطنية لإصلاح المنظومة التربوية في الجزائر، فالتجربة تجسد عمليا ما دأبت وزارة التربية الوطنية ووزارة الصحة على التأكيد عليه، أن الاستثمار في الطفولة المبكرة هو استثمار في مستقبل البلاد.
فالمدارس التي تجعل من الصحة والتربية النفسية ركيزة للعملية التعليمية، تسهم بشكل مباشر في بناء رأس مال بشري مؤهل، قادر على مواجهة تحديات العصر، من المعرفة الرقمية إلى الوقاية الصحية. وهي بذلك تعكس الحاجة إلى سياسة تعليمية وطنية شاملة، تدمج البعد الصحي والاجتماعي في المنظومة التربوية، لتنشئة أجيال متوازنة تشكل أساس التنمية المستدامة.
الهوصاوي لحسن