روبرتاج

قرية العنابرة بمنطقة مسيردة الفواقة بتلمسان

حجارة البيوت المدمّرة شاهدة على بشاعة الاحتلال الفرنسي

ضمن الربورتاجات الأسبوعـية التي دأبت “الـبديل” على إنجازها، تحط هذا الأسبوع رحالها بقرية أقصى غرب الحدودية الجزائرية دائـرة مرسى بـن مهيدي بولاية تلمسان، وبالضبط بمنطقة مسيردة الفـواقة.


 

إنها قـرية العنابرة، لطالما اشتهر سكانها بوعدتهم المشهورة باسم “العنابرة” التي تقاوم مع منتصف الشهر الجاري من شهر أوت ككل موسم، نسبة إلى الجدّ الأكبر “موسى العنبَرِي” الذي ينحدر من سلالة فاطمة الزهراء بنت الرسول صلى الله عليه وسلّم، والتي يحضرها كافة أعـيان المنطقة ورجالاتها وشيوخها ومواطنيها، إضافة إلى ضيوف ومدعـوّين من كافة قرى ومداشر مسيردة والبلديات المجاورة وبعـض الولايات أيضا، حيث يعكف المجتمعـون على قراءة القرآن الكريم، كما يتم بالمناسبة، تكريم بعض شهداء المنطقة، فضلا عن عرض السيرة الذاتية للبعض منهم.

لقـرية ذكريات خالدة مع تاريخ الثورة التحريرية تشهد عليها ساحة الشهداء بمنطقة الدشر، حيث يوجد النصب التذكاري المسجل لتضحيات بطولات لعب أدوارها 76 شهيدا من أبناء الـقـرية الذين سلكوا درب الحرية،… فـقـد عـرفت هذه المنطقة كمأوى للرئيس المجاهد “أحمد بن بلة” أثناء زياراته لمناضليها الأوفـياء الملتزمين في العمل السياسي والثوري…

وحسب بعض الشهادات من ساكنة هذه القرية، خاصة المجاهدين منهم، لقـد اختار “أحمد بن بلة” أحد أعضاء الوفد الخارجي لجبهة التحرير الوطني وقتها، وتحت إشراف قائد المنطقة الخامسة الشهيد، “محمد العربي بن مهيدي” هذه القرية، معبرا للأسلحة والذخيرة لتموين المنطقة بالأسلحة، التي جاءت من مصر على متن باخرتي دينا وفاروق، كان كل مجاهد يحمل على ظهره بندقية من نوع 303 و660 خرطوشة فمنها قطع المجاهدون بالسلاح في طريقهم إلى ضواحي مدينة الغزوات لتموين المنطقة بالأسلحة… وبالتالي فإن جل القوافل تعبر هذه القرية…وأصبحت العنابرة قرية مجاهدة ومناضلة ومركزا للعمليات… ولهذا عندما قدم السلاح على متن باخرة دينا، كانت الأحوال كلها منسقة ولعبت القرية دورا هاما وجوهريا في هذه العملية، إذ وبعد الاحتلال كانت العنابرة تابعة إلى مسيردة الفواقة التي كانت تحت سيطرة الجنرال لاموريسيار منذ سنة 1843، في الوقت الذي كانت فيه مسيردة التحاتة تحت سيطرة الجنرال بـيدو منذ سنة 1844، وقد تواترت الأخبار أبا عن جـد.

وفي شهر فـيفـري من سـنـة 1956، وبعـد معركة الصبابنة، تعرضت قرية العنابرة للتدمير من قبل القـوات الاستعمارية، لتكون بذلك القرية الأولى في المنطقة التي يطالها التدمير الكامل، ولتبقى الأطلال الموجودة من حجارة البيوت المدمرة جراء قصف الاحتلال الفرنسي حتى اليوم شاهدا حيا على الجريمة بقلب منطقة الدشر.

 

المسجد العتيق شاهد عـلى تاريخ أول قرية هدّمت عن آخرها في عدة معارك طاحنة

عـن تاريخ المنطقة، أكد الخبير “بختاوي سعيد” رئيس الجمعية الثقافية والتاريخية لقرية العنابرة خلال لقاء جمعه بــ “الـبـديل” أن المسجد المتواجد بالقرية لأكثر من خمسة قرون، بناه الجد الأكبر “سيدي لحسن بن موسى العنبري”، أحد ملوك الزيانيين الذي جاء إلى هذا المكان بعد سقوط الدولة الزيانية في أيدي الأتراك، حيث انعزل فيها رفقة عشيرته وأقاموا هذا المسجد واستقـرّوا بها كما أقاموا عـدة منشآت ونشروا العديد من العادات والتقاليد لاتزال إلى يومنا هذا حريصة على تحفيظ القرآن الكريم والمحافظة على الكرامة والسيادة والشخصية الدينية، وعلى تاريخ المنطقة في أوساط هذه القرى المجاورة لها.

كما أن هذه المنطقة كانت تقاوم الاستعمار الإسباني، حيث عـقـب مجيء الاستعمار الفرنسي، كان “الأمير عـبد القادر” يقيم بها في آخر أيامه، إذ كان أهاليها يجاهدون إلى جانبه، وبقيت القرية محافظة ومدافعة عن كيانها وشخصيتها وممتلكاتها، ولكن المستدمر الفرنسي استطاع بوحشيته أن يقهرها ويسلط عليها الفقر والغبن، ورغم ذلك بقى أهلها صامدين في وجهه بحكم تماسكهم وتآزرهم مع سكان وأهالي القرى والمداشر المجاورة.

خاصة وأن المنطقة كانت معقلا للرئيس “أحمد بن بلة” رحمه الله، إذ كان يزورها باستمرار وكان له بها ارتباط وثيق وقوي جدا، خاصة وأن أهاليها كانوا منضبطين في نظام الحركة الوطنية فيما يخص تنظيم الخلايا وغير ذلك من هياكل الحركة، وكان يعتبر كل ثوري من المنطقة “عنبري” وإن لم يكن كذلك فهو من أولاد يعـقوب أو بيدر أو صبابنة أو القـرى المجاورة لها فكلهم ينسبون إلى العنابرة، لأن المنطقة كان يقصدها جل شباب الثورة باعتبارها مركزا للمقاومة الثورية، مع العلم أن أحد حكام فرنسا عرض عليهم بناء مدرسة لكنهم رفضوا أن يكون التعليم فيها باللغة الفرنسية لأنهم كانوا يعتبرونها جزء من الاستعمار الثقافي، ولعبت القرية دورا هاما وأساسيا في نقل السلاح إلى غاية ندرومة، إلى أن اكتشف الأمر وانتهى باستشهاد كل من “بختاوي زيان” و”بوقروين ميمون” في 29 جويلية 1955.

حيث حطّ عساكر فرنسا رحالهم بالمنطقة لأجل البحث عن المقاومين الذين فـرّ أغلبيتهم إلى فلاوسن، ومنهم من بقوا مختبئين بالمنطقة في أماكن سرية، خاصة وأن المقاومة بالمنطقة عرفت تأخرا من الفاتح نوفمبر إلى غاية جويلية 1955، وهذا بأمر من القادة آنذاك وهم العربي بن مهيدي وبوصوف اللذان حسب تصريحاتهما لو وقعت اشتباكات أو معارك أو ما شابه ذلك بالمنطقة، فإن فرنسا سوف تحاصر المنطقة بعساكرها وتضاعف من قوتها لإفشال عملية تمرير الأسلحة عـبـر الجهة الغربية، لذلك أعطيت تعليمات صارمة في إلزامية السر بعد أن أسند الأمر آنذاك للقائد والمجاهد “بختاوي عبد القادر” رحمه الله، كما وقعت بالمنطقة عـدة معارك طاحنة كمعركة الخروبة بالقرب من المسجد العتيق ومعركة الصبابنة…وغـيرها، وكانت أول قرية هدّمت عن آخرها بعد الصبابنة هي قـرية “العنابرة”، حيث هاجر أهاليها وسكانها من بطش الاستدمار الفرنسي، واستشهد بعدها الكثير من أبنائها القادة منهم “بختاوي عبد القادر” و”علي وشان”، بولاية تيارت والضابط “أمحمد بختاوي” الذي كان قائد منطقة استشهد بولاية سيدي بلعباس و”دودي” رحمه الله، الذي كان أيضا قائدا للمنطقة الثامنة بعد “الحنصالي” واستشهد بمنطقة جبالة، و”أبو بكر علي” استشهد بعين تموشنت والضابط بوعبد الله حجام، استشهد بمنطقة الولاية الثامنة…وغـيرهم، هؤلاء كلهم استشهدوا في أوائل الثورة التحريرية، بالإضافة إلى مناضلين آخرين كالمجاهد بوقروين رمضان رحمه الله…وغـيرهم رحمهم الله، هؤلاء الرجال الذين  قدموا تضحيات واستشهدوا لأجل تحرير الجزائر من عـتو الاستعمار نشهد لهم أنهم  كتبوا بدمائهم الزكية تاريخاً مشرفاً لوطنهم، يفخر به أبناؤنا وأحفادنا والأجيال القادمة، ويستمدون منه العزم والإرادة على مواصلة الطريق لجعل دولة الجزائر في مكانها الذي تستحقه بين الأمم.

 

زاوية دينية وعلمية لترقية القرية وترسيخ قيم المواطنة

وأضاف الخبير “بختاوي سعـيد”، رئيس الجمعية الثقافية والتاريخية لقرية العنابرة أن القرية بعد الاستقلال عاشت العـوز والحرمان بسبب التركة الثقيلة للحرب، لكن خلال السنوات الأخيرة استعادت مكانتها خاصة بعد استتباب الأمن وعودة الاستقرار إلى البلاد، وها هو اليوم يشيد بها الصرح الديني والثقافي المتمثل في زاوية ومسجد كبير به مدرسة قرآنية لتعليم القرآن الكريم والتعاليم الدينية، والصرح يتربع على مساحة 600 متر مربع مبنية وعلى طابقين.

كما يحتوي على العديد من الملاحق منها إقامة للطلبة تحتوي على 30 غرفة وأقسام خاصة لتعليم القرآن الكريم، وتلقي الدروس وقاعة لإلقاء المحاضرات والملتقيات الدينية والعلمية.

إلى جانب أقسام أخرى مخصصة لتكوين الفلاحين في المجالات الفلاحية من طرف مختصين وخبراء في ميدان الفلاحة، بحكم أن المنطقة فلاحية محضة، وذلك لأجل تعليمهم الزراعة العصرية، والهدف من كل هذا هو الحفاظ على المسجد العتيق والذاكرة التاريخية للمنطقة وطابعها الفلاحي.

أما فكرة تأسيس الجمعية، فقـد جاءت للحفاظ على التراث والتقاليد والتاريخ كسائر المناطق الأخرى بمسيردة، وتعمل الجمعية مع المؤسسات الاجتماعية والثقافية المعتمدة، بالمساهمة الميدانية لخلق الأجواء الملائمة لتأطير سكان القرية، قصد بعث تنظيم يساهم في التنمية والتغيير والعمل على إدماج الشباب في عملية النمو الاجتماعي مع تنمية الهوايات المتنوعة وفتح المجال للإبداع، وإبراز القدرات والتشجيع على الابتكار والمساهمة البناءة لترقـية المنطقة ومنها البلاد، إلى جانب الاهتمام بالنشاطات الدينية، الثقافية، التاريخية، الاجتماعية، الأثرية والسياحية، ما يتبع ذلك من خدمات لتنميتها وانتعاشها وتطويرها، مع إقامة وصيانة المعالم الأثرية والتاريخية والاهتمام بالقرية قصد استنهاض روح البناء والتنمية، مع ترسيخ قـيم المواطنة كممارسة واعـية بالحقوق والواجـبات…

ويبقى الهدف من كل ذلك هو تثمين تاريخ المنطقة، وهو نفس الهدف الذي تعـمل لأجله الجمعية الثقافية للمنطقة المهتمة أيضا بالتراث والتقاليد وكل ما يتعلق بالمنطقة.

 

ومشاريع تنموية هامة بقرية العنابرة لتحسين الظروف المعيشية للسكان

شهدت قـرية العـنابرة والقرى المجاورة لها ببلدية مسيردة الفواقة بدائرة مرسى بن مهيدي، خلال السنوات الأخيرة دخول مشاريع تنموية هامة الخدمة في إطار تنمية مناطق الظل لتحسين الظروف المعيشية للسكان، منها مدرسة ابتدائية بقرية العسة، إلى جانب مشروع تعبيد الطرقات بدوار عريشات، ومشروعي الربط بشبكة المياه الصالحة للشرب وإعادة تهيئة محطة الضخ، وكذا مطعم مدرسي بالمدرسة الابتدائية بختاوي منور.

هذا المرفق مكن حاليا من تقديم وجبات ساخنة للتلاميذ المتمدرسين، فضلا عن عملية تهيئة قاعة العلاج الصحي بقرية الصبابنة، واستفادت أكثر من 340 عائلة من شبكة الغاز الطبيعي بقريتي دار الكحلة وباقلة وأولاد أحميدة، وخزان مائي بسعة 150م3، حيث خلّفت هاتين العمليتين انطباعا جد إيجابي لدى المواطنين اللذين استبشروا خيرا لهذين المشروعـين، ودخول هاتين المادتين الحيويتين إلى مساكنهم بعد طول انتظار، الذين من شأنهما تخفيف العبء عليهم.

كما استفادت قرية جامع الوسط المجاورة لها من مشروع إنجاز الملعب البلدي وتكسيته بالعشب الاصطناعي، حيث كان لهذا المرفق الأثر الإيجابي لفائدة شباب المنطقة من أجل الممارسة الرياضية الجماعـية، ومشروع إنجاز محطة إعادة الضخ، والذي جاء لتدعيم ساكنة المنطقة وما جاورها بالمياه الصالحة للشرب، ومشروعي إعادة تهيئة قاعة العلاج، وإعادة تهيئة الملعب الرياضي الجواري وتكسيته بالعشب الاصطناعي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى