تكنولوجيا

القيمة الخفية للمنتج الرقمي.. إعادة رسم خريطة العمل

في عالم يتغير بسرعة الضوء، تتقدم المفاهيم وتتحول الأشياء التي كنا نعدها في الأمس أدوات بسيطة إلى عناصر فاعلة في حركة الاقتصاد والثقافة والمعرفة، ويبرز المنتج الرقمي اليوم بوصفه أحد أهم التحولات التي غيرت وجه الإنتاج والاستهلاك وأعادت تعريف القيمة والملكية والعمل، وأثارت تساؤلات عميقة حول ماهية المنتج نفسه وأين يبدأ وأين ينتهي وما الذي يجعل من فكرة بسيطة على شاشة منتجا قابلا للبيع والتأثير.

 

المنتج الرقمي ليس مجرد سلعة بل خطاب معرفي

حين نتحدث عن المنتجات الرقمية، فإن أول ما يتبادر إلى الذهن هو الكتب الإلكترونية أو البرامج أو الدورات التعليمية، لكن في العمق المنتج الرقمي ليس فقط ملفا رقميا يمكن تحميله أو مشاهدته، بل هو خطاب كامل يتكون من أفكار وهياكل وقيم ينتجها الفرد أو المؤسسة ليتفاعل معها المتلقي عبر وسيط رقمي، وهذا التفاعل لا يشبه أي تفاعل تقليدي لأنه لا يتطلب وجودا ماديا ولا حدودا جغرافية، بل يتمدد عبر الزمن والمكان ويخضع لقواعد السوق والانتشار الفيروسي وأحيانا لقواعد الذكاء الاصطناعي.

من أكبر المفاهيم التي أعاد المنتج الرقمي تشكيلها مفهوم القيمة، ففي المنتجات التقليدية كانت القيمة تقاس بالكلفة والمادة والجهد، أما اليوم فالقيمة الرقمية لا ترتبط بوزن ولا حجم بل بالفكرة، والإبداع والقدرة على الحل أو الإقناع أو الإبهار فدورة تعليمية في مجال تقني أو نفسي قد تكلف أقل من ورقة، لكنها قد تغيّر مصير آلاف المتعلمين وكتاب رقمي قد لا يطبع أبدا لكنه قد يصل إلى جمهور أوسع من أي كتاب ورقي وقالب رقمي، أو تصميم قد يباع لمئات بل آلاف الأشخاص دون أن يُستنزف أو يُستهلك، وهو ما يجعل من المنتج الرقمي وسيلة لتكرار الربح بلا استهلاك للموارد.

 

الملكية في زمن النسخ اللامتناهي

تطرح المنتجات الرقمية أيضا إشكالا فلسفيا حول فكرة الملكية، ففي الزمن الورقي كان امتلاك كتاب يعني امتلاك نسخة مادية منه، لكن في الزمن الرقمي امتلاك نسخة لا يعني بالضرورة ملكية حصرية، إذ يمكن نسخ المنتج بلا نهاية وتوزيعه بلا جهد وهو ما دفع الكثير من المؤسسات إلى تطوير نماذج جديدة للترخيص والحماية الفكرية، لكن رغم هذه المحاولات يبقى السؤال قائما ما الذي نملكه فعلا حين نشتري منتجا رقميا هل نملك المحتوى أم الحق في استخدامه أم لحظة الوصول فقط.

 

تحولات في طبيعة العمل والإنتاج

لقد أدى صعود المنتج الرقمي إلى إعادة رسم خريطة العمل والمهارات، حيث لم يعد الإنتاج حكرا على المصانع والشركات الكبرى، بل أصبح في متناول الأفراد والمستقلين الذين يملكون المعرفة والأدوات الرقمية لإنتاج محتوى ذي قيمة، وهذا التحول أتاح فرصا غير مسبوقة، لكنه فرض أيضا تحديات جديدة مثل المنافسة المفتوحة وسرعة التغيير ومتطلبات التسويق الرقمي التي لا تقل تعقيدا عن الإنتاج نفسه.

مع كثرة المنتجات الرقمية وتنوعها، نشأ تحدي جديد يتمثل في الثقة بين المنتج والمستهلك، إذ إن السوق الرقمية تعج بالخيارات والوعود أحيانا تكون مغرية لكنها لا تحقق ما تعد به، مما جعل من تقييمات المستخدمين وآراء الجمهور ومصداقية المبدع عوامل حاسمة في قرار الشراء، وهذا يفرض على من ينتج أن يضع الجودة والشفافية ضمن أولوياته لأن القيمة في العالم الرقمي لا تأتي فقط من الفكرة بل من الثقة التي تبنيها حولها.

 

نحو اقتصاد رقمي قائم على الأفكار

إن صعود المنتج الرقمي لا يعني فقط تحولا في أدوات الإنتاج، بل هو إيذان بتحول أعمق في بنية الاقتصاد، حيث تنتقل القيمة من الموارد الطبيعية إلى الموارد المعرفية ومن الآلات إلى الأفكار، ومن الملكية إلى الوصول ومن المؤسسات إلى الأفراد، وهذا التحول لا يزال في بداياته لكنه مرشح ليكون من أهم ملامح الاقتصاد العالمي خلال العقود القادمة.

المنتج الرقمي ليس مجرد اختراع تقني، بل هو تحول ثقافي عميق يعيد طرح الأسئلة حول ما ننتج ولماذا وكيف وأين تذهب أفكارنا حين تتحول إلى ملفات وصور وأصوات في هذا الفضاء اللامحدود، قد يكون أعظم ما ننتجه هو ما لا يمكن لمسه لكنه قادر على أن يغير حياة من يراه أو يسمعه أو يتفاعل معه وهذا هو جوهر المنتج الرقمي.

ياقوت زهرة القدس بن عبد الله

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى