
حين يُسأل أحد شباب اليوم عن الشيء الذي لا يستطيع مفارقته، نادرًا ما يتردد في الإجابة الهاتف، لا لأنه مجرد وسيلة اتصال، بل لأنه أصبح مع الزمن تجسيدًا رقميًا لهويته، عبره يتحدث ويتعلم ويحب ويعمل ويغضب ويُعبّر، الهاتف ليس بين يديه فقط، بل بين جوانحه وأحيانًا قبله، الهاتف الآن ليس جهازًا إنه مِرآة ثقافية وذراع اجتماعية وشاشة يطل بها الإنسان على معنى وجوده في هذا العصر.
جيل ما بعد الألفية لم يختر الحياة الرقمية، بل وُلد فيها وبدل أن يتعلم كيف يستخدم الهاتف أصبح الهاتف هو من يعلّمه كيف يعيش كل تطبيق، كل إشعار كل صورة، ليست عشوائية بل مصممة بعناية لتُخاطب اللاوعي تَمنح وهم السيطرة وتَسحب ببطء الإرادة كلّما شعر بالضجر أمسك الهاتف، وكلّما اشتد عليه الواقع عاد إلى الشاشة، وما بينهما تتكون هوية مرهونة بما يُعرض لا بما يُفكر فيه.
الهاتف بالنسبة إلى الجيل زد ليس خيارًا، بل ضرورة اجتماعية ونفسية، فالانفصال عنه يعني الانفصال عن المجموع عن الأخبار عن الأصدقاء، عن ما هو “شائع”، وبالتالي عن الوجود نفسه وأمام هذا التصوّر، يتحول الهاتف من سلعة إلى شرط حياة، ومن جهاز إلى عبء نفسي ومن وسيلة إلى نهاية.
كيف يُدار السوق من جيب المستخدم؟
ما أن يصدر طراز جديد من الهواتف حتى تبدأ موجة جماعية من الترقب، يعرض المستخدمون مواصفات الجهاز كما لو كانوا وكلاء مبيعات، تُشعل المنصات مراجعات لا تنتهي تظهر المقارنات ويتولد الإحساس بأن الهاتف القديم الذي لم يتجاوز عمره السنة، لم يعد كافيًا ولم يعد “يليق”، وها هو السوق ينجح مجددًا في إعادة خلق الحاجة، لا استنادًا إلى النقص، بل انطلاقًا من الشعور باللاكمال.
الاستنزاف لم يعد مباشرًا كما في السابق، بل صار ناعمًا، هادئًا، متقنًا، عبر لغة الإغراء البصري والتقني، وعبر تحديثات لا تتوقف، كل تحديث يجعل الجهاز أبطأ، وكل ميزة جديدة لا تعمل بكفاءة إلا على الإصدار الأحدث، لتبدأ الرحلة من جديد، ما بين القناعة المؤقتة والرغبة الدائمة، دون أن يدرك المستخدم أنه تحول إلى مستهلك دائم، لا يملك ما يشتري، بل يشترى كل يوم.
أكثر ما يُقلق في هذا النمط الاستهلاكي، أنه يُغلف الاستنزاف بغلاف الحداثة، ويقدمه في ثوب النجاح الاجتماعي، فمن يملك الهاتف الأحدث يُنظر إليه على أنه متقدم، فاهم، منخرط في نبض العصر، ومن يتأخر عن الركب يُتهم بالتقاعس أو الجهل أو الفقر، وهكذا يصبح الضغط غير معلن، لكنه قاسٍ، ومرهق، ومستمر، يشبه سباقًا لا نهاية له، يُستهلك فيه المستخدم باسم المستقبل.
الذكاء الاصطناعي.. تحالف التقنية والرأسمال ضد الإنسان
في الخلفية لا يقف الهاتف وحيدًا بل يرافقه اليوم الذكاء الاصطناعي لا كعنصر مساعد فقط، بل كفاعل اقتصادي ومعرفي، يراقب كل لمسة يحلل كل حركة يتعلم من كل اختيار، ثم يعيد تشكيل المحتوى والإعلانات بما يتناسب مع رغبات الشخص وسلوكه وميوله الخفية لتتحول تجربة الاستخدام إلى قفص ذهبي، مخصص بالكامل لصاحبه لكنه أيضًا مغلق عليه.
الذكاء الاصطناعي لا يعمل في فراغ، بل في منظومة اقتصادية تسعى لاستخلاص أقصى ما يمكن من انتباه الإنسان وزمنه وماله يقدّم له النصيحة، ويقترح له المنتج، ويُغذّيه بالمعلومة، لكنه في الحقيقة يسحبه إلى حيث يريد السوق عبر خوارزميات لا تهتم بالحقيقة ولا الأخلاق ولا المصلحة العامة، بل بالتحويل، بالنقر بالشراء بالبقاء لأطول وقت ممكن أمام الشاشة.
وحين يُطرح السؤال: من المستفيد من كل هذا؟ تكون الإجابة واضحة ليس المستخدم، بل من يصمّم سلوك المستخدم من يُعيد هندسة حاجاته وعاداته وأذواقه، وكلما زاد الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في تصميم تجربة الهاتف، زاد تأثير السوق على الفرد وزادت هشاشته وتحول من شخص حرّ إلى مستخدم منقاد، يشتري هاتفًا لا يحتاجه ويُحدث تطبيقًا لا يفهمه ويستهلك خدمة لم يطلبها.
في النهاية، لا يدعو هذا الطرح إلى رفض الهاتف أو معاداة التقنية بل إلى وعي جديد إلى أن نستخدم الأدوات لا أن نُستخدم بها إلى أن نُمسك بالهاتف لا أن نمسك به خائفين من تفويت شيء ما إلى أن نسترجع علاقتنا مع الزمن ومع الذات، ومع العالم الحقيقي قبل أن يتحول كل شيء إلى إشعار.
إذا كان الجيل الرقمي قد وُلد بين الشاشات، فهذا لا يعني أن مصيره يجب أن يُحكم عبرها، فالهاتف، مهما ارتقى في وظائفه، لا يجب أن يُبدّل الإنسان الحقيقي بظله الرقمي، ولا أن يستبدل الحوار الحي برسالة نصية، ولا أن يحوّل الحضور إلى تصفّح، والنظر إلى تَمرير إصبع.
التقنية، حين تصبح غاية لا وسيلة، تفقد معناها الإنساني، والذكاء، حين يُدار من دون وعي أخلاقي، يتحول إلى وسيلة سيطرة ناعمة، تلتهم الحرية باسم الراحة، وتُهندس القناعات باسم “التوصيات”، وتحوّل الهاتف، ذلك الجهاز الصغير، إلى أكبر شرك في تاريخ الاستهلاك الحديث.
إعداد : ياقوت زهرة القدس بن عبد الله