تكنولوجيا

الخطاب الرقمي المسؤول.. ضرورة ثقافية لحماية الوعي المجتمعي

في زمنٍ تجاوزت فيه الرسائل النصية والحسابات الإلكترونية حدود المكان والزمان، بات الخطاب الرقمي هو الساحة الأكثر اتساعًا للجدل والتأثير والاصطفاف الجماهيري.


لم يعد هذا الفضاء مجرد وسيلة تعبير، بل أصبح أداة لصنع الرأي، وبناء الصور الذهنية، وتأجيج الخلافات أو رأب الصدع. غير أن ما يغيب أحيانًا في خضم هذه التفاعلات الرقمية، هو الإحساس بالمسؤولية الأخلاقية والإنسانية تجاه ما يُنشر ويُشارك ويُعلق عليه.

ما معنى “الخطاب الرقمي المسؤول”؟

الخطاب الرقمي المسؤول لا يعني الرقابة ولا التكميم، بل يشير إلى استخدام المنصات الرقمية بطريقة تعزز القيم، وتحترم الاختلاف، وتلتزم بالصدق، وتتجنب خطاب الكراهية، والتحريض، والشائعات. إنه خطاب ينبع من ضمير المستخدم أولًا، ويترجم حرية التعبير ضمن أطرها الأخلاقية والقانونية، لا كفوضى مفتوحة أو انفلات لغوي مشحون بالعنف والتجريح.

من الحرية إلى الفوضى: حين يُساء فهم التعبير

لقد أدّت سهولة النشر والتفاعل اللحظي إلى إذابة الفارق بين الرأي والمعلومة، وبين الحرية والإساءة. فكم من تغريدة أو تعليق وُلد من لحظة غضب، سبّب عاصفة رقمية أدت إلى تحطيم سمعة فرد، أو شحن طائفة، أو تشويه فكرة. وهنا تكمن خطورة الخطاب غير المسؤول، الذي يتحرك بردّات فعل أكثر مما يستند إلى تفكّر أو تمحيص، ويستمد قوته أحيانًا من التفاعل الجماهيري لا من صواب المحتوى.

الرقابة الذاتية لا تُناقض الحرية

يرفض البعض فكرة الخطاب المسؤول بحجة أنها قيد على الحريات، بينما الواقع يؤكد أن الرقابة الذاتية هي التعبير الأعلى عن النضج الفكري. فكما أن الإنسان لا يصيح في الشارع بألفاظ جارحة بدعوى التعبير، فإن الفضاء الرقمي ينبغي أن يحكمه المبدأ نفسه. الحريّة لا تعني أن نقول كل شيء في كل وقت ولكل أحد، بل أن نعرف “متى” و”كيف” و”لمن” نتحدث، دون أن نلغي احترام الآخر.

مواقع التواصل: مرآة أم مُحرض؟

لطالما اعتُبرت مواقع التواصل الاجتماعي مرآة للمجتمعات، لكنها في الواقع أصبحت في كثير من الأحيان منصات لتحريك العواطف وخلق استقطابات. من خلال خوارزميات التركيز على الجدل والمحتوى الصادم، تُغذّى الأنا الرقمية وتسود الرغبة في الفوز بالانتباه على حساب الصدق والمصلحة العامة. وهنا يبرز دور الفرد لا كمستهلك سلبي، بل كصانع للخطاب وكمسؤول عن تبعاته.

منابر التأثير: الإعلام الرقمي في دائرة المسؤولية

لا تقتصر مسؤولية الخطاب الرقمي على الأفراد فحسب، بل تمتد إلى المنصات والمؤسسات الإعلامية المؤثرة. فالمواقع الإخبارية، والمدوّنات، والبرامج الحوارية الرقمية، تتحمل مسؤولية مضاعفة لأنها توجّه الرأي العام، وتشكل الوعي الجمعي. وفي بيئة يغيب فيها التدقيق أو تتحكم بها الإثارة، يصبح من السهل تمرير محتوى مسيء أو موجه أو زائف، تحت غطاء الجاذبية الرقمية أو السبق الصحفي.

التربية الرقمية: غيابها يُعمّق الفوضى

لعل من أبرز أسباب تفشي الخطاب الرقمي غير المسؤول هو غياب مفهوم “التربية الرقمية” في التعليم والإعلام. فالشباب ـ وهم الفئة الأوسع في العالم الرقمي ـ يتعاملون مع المنصات من باب التسلية والتفاعل، دون أن يتلقوا أدوات النقد، أو التفكير التحليلي، أو مبادئ التحقق من المعلومات. ومن هنا تنشأ فجوة وعي تُسهم في تكرار الأنماط السلبية، وتوسيع دائرة الانفعال الرقمي دون إدراك للنتائج الواقعية.

نحو ميثاق رقمي أخلاقي

إن أحد الحلول الممكنة لتقويم الخطاب الرقمي يتمثل في تبني ميثاق رقمي أخلاقي مشترك، لا تفرضه الحكومات فقط، بل ينبع من المجتمع المدني، والجامعات، والمؤسسات الإعلامية، والنشطاء، والمؤثرين. ميثاق يُشجع على التعبير دون إساءة، وعلى النقد دون تشهير، وعلى المزاح دون سخرية جارحة. هذا الميثاق قد يأخذ شكل حملات توعية، أو مدونات سلوك، أو حتى مسابقات تُكافئ أفضل خطاب رقمي مسؤول.

قصص التغيير تبدأ بالكلمات

لا يجب أن نستهين بقوة الكلمات، فتغريدة واحدة قد تُشعل فتنة، ومقطع واحد قد يشوّه حياة إنسان، ومقال واحد قد يُحيي الأمل. لهذا، فإن أي مساهمة في الفضاء الرقمي هي مسؤولية تاريخية، لأننا نكتب للتاريخ وللأجيال القادمة، وليس فقط للحظات التفاعل. والمجتمعات التي تحترم خطابها، تحترم ذاتها، وتحمي قيمها من التآكل.

إن استعادة الثقة في العالم الرقمي لا تكون بالرقابة الصلبة ولا بالحظر، بل بترسيخ ثقافة الخطاب المسؤول. وهذا الخطاب ليس رفاهية، بل هو ضرورة ثقافية ومجتمعية للحفاظ على الوعي، وتحصين الأفراد، وتقوية الروابط الإنسانية في بيئة رقمية باتت مشحونة بالتوتر والعزلة. فكما نُطالب بحقنا في التعبير، علينا أن نُدرك واجبنا في أن يكون هذا التعبير مسؤولًا، نابعًا من احترامنا للآخر، ولمستقبلنا المشترك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى