تكنولوجيا

الجريمة العصرية.. عندما يتحول الذكاء الاصطناعي إلى آلة لاستعباد البشر

بينما يتقدّم العالم نحو الاعتماد المتزايد على الذكاء الاصطناعي في شتى مجالات الحياة، برزت على السطح ظاهرة خطيرة تجمع بين تكنولوجيا متطورة وأساليب جريمة تقليدية، تُعرف إعلامياً بـ”مزارع الاحتيال الإلكتروني”.


لا تقتصر خطورة هذه المزارع على الخسائر المالية التي تخلّفها، بل تتعدّاها إلى استعباد البشر واستغلالهم قسرًا ضمن عمليات احتيالية مُحكمة تقودها عصابات دولية عابرة للحدود.

في جنوب شرق آسيا، ولا سيّما في ميانمار، كمبوديا والفلبين، تُدار هذه المزارع من قبل جماعات منظمة تستقطب ضحاياها من دول فقيرة أو مضطربة اقتصاديًا مثل إثيوبيا والهند وإندونيسيا. يُستدرج الشباب عبر عروض عمل مُغرية منشورة على وسائل التواصل الاجتماعي، يدّعي أصحابها توفير وظائف في مجالات “التسويق الرقمي” أو “خدمة العملاء”، بينما الواقع أن هذه العروض ليست سوى طُعم لخداعهم.

بمجرد وصول الضحية إلى الدولة المستهدفة، تُصادر جوازات السفر، ويُحتجز الأشخاص في منشآت محمية بحراسة، تُفرض عليهم أعمال قسرية تمتد لساعات طويلة تصل إلى 15 ساعة يوميًا، مع التهديد والعنف كوسائل للترهيب.

تقنيات الذكاء الاصطناعي كأداة للجريمة

تكمن الخطورة الأكبر في استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي داخل هذه المزارع، حيث يتم تشغيل الضحايا في أقسام متخصصة في إنشاء هويات مزيفة، وانتحال شخصيات افتراضية، بهدف خداع مستخدمين حقيقيين حول العالم. تُستخدم تقنيات التزييف العميق لتوليد صور ومقاطع صوتية أو مرئية تُقنع الضحية بواقعية الشخصية، سواء كانت فتاة تبحث عن الحب أو مستثمرًا وهميًا يعرض صفقة مالية مغرية.

وقد سجلت المنصات الرقمية ارتفاعًا مهولًا في تداول البرمجيات الخبيثة المرتبطة بهذه العمليات، وبلغت نسبة استخدام تقنيات التزييف العميق ارتفاعًا قدره 600 بالمائة خلال العام الماضي، وفق تقارير أممية.

استهداف المجتمعات الهشة

تختار العصابات ضحاياها بعناية، مركّزة على الشباب المتخرجين حديثًا أو الباحثين عن فرص للهجرة، ممن يملكون طموحات كبيرة دون خلفيات قانونية أو تقنية تحميهم من الوقوع في الفخ. هؤلاء لا يُستغلّون فقط كضحايا، بل يُحوّلون إلى أدوات احتيال تُستخدم ضد غيرهم.

وتُظهر شهادات الناجين كيف أُجبر البعض على بناء علاقات رومانسية كاذبة مع ضحايا على تطبيقات المواعدة، بهدف دفعهم لاستثمار أموالهم في منصات مالية وهمية. البعض تم تدريبه على هندسة محادثات معقدة تُقنع الضحية بوجود فرصة مالية حقيقية، بينما يتم في الخلفية توجيه الأموال مباشرة إلى حسابات العصابة.

تشير تقديرات متقاطعة إلى أن هذه المزارع تدرّ أكثر من 40 مليار دولار سنويًا، في حين سجّلت الولايات المتحدة وحدها خسائر بلغت 12.5 مليار دولار في عام 2024 بسبب هذه الجرائم، ما يجعل الاحتيال الرقمي ثاني أكثر أنواع الجريمة الإلكترونية ربحًا بعد الابتزاز السيبراني.

الغريب أن كثيرًا من هذه العمليات لا تزال تتم عبر منصات معروفة كـ”فيسبوك” و”تيليغرام”، رغم تعهد الشركتين بمحاربة المحتوى الاحتيالي. لكن تقارير دولية أوضحت أن الجماعات الإجرامية تواصل تطوير أدواتها، وتنتقل من منصة إلى أخرى بسهولة، مُستغلة ثغرات الرقابة الرقمية.

دور المنصات في تسهيل الجريمة

لم تُبرّئ التقارير الحديثة كبرى منصات التواصل من المسؤولية، إذ كشف تقرير صادر عن صحيفة أمريكية أن إحدى الشركات صنّفت الاحتيال الوظيفي كأولوية منخفضة الخطورة، ما فتح الباب أمام المجرمين لترويج آلاف الإعلانات الكاذبة يوميًا.

التحقيقات بيّنت أن كثيرا من المجموعات الإجرامية تمتلك شبكات داخلية تُراقب تحركات الضحايا وتعيد تصديرهم إذا حاولوا الفرار. كما يتم ابتزاز أسرهم ماليًا من أجل “تحريرهم”، ما يجعل هذه العمليات أشبه بنظام استعباد رقمي مدعوم بتكنولوجيا فائقة.

قصة واقعية لأحد الضحايا

من القصص المؤلمة التي رُويت، ما حدث لشاب إندونيسي خريج تكنولوجيا معلومات، أُقنع بوظيفة في مجال تحسين نتائج البحث، ليُفاجأ بسجنه داخل منشأة مغلقة في كمبوديا، حيث أُجبر على الاحتيال على مستخدمين، من بينهم فتاة من بلده أقنعها بإيداع عشرة آلاف دولار في كازينو رقمي لا وجود له.

وفي حادثة أخرى، تعرّض شاب مؤثر على مواقع التواصل للاختطاف من مطار بانكوك بعد أن قُدّمت له وظيفة وهمية. نُقل إلى ميانمار، وهناك شارك في عمليات تزييف الوجوه بالصوت والصورة لخداع ضحايا تطبيقات المواعدة.

الضحايا بعد النجاة

الناجون من هذه “المزارع الرقمية” لا يخرجون سالمين، بل محمّلين بجراح نفسية عميقة. كثيرون فقدوا الثقة في العمل عن بعد، وبعضهم يعاني من اضطرابات ما بعد الصدمة. شاب فرّ من إحدى هذه المزارع يعمل اليوم ميكانيكيًا في مزرعة نخيل، ويحلم بالعودة إلى البرمجة يومًا ما، قائلًا: “كل ما نملكه نحن البشر هو أن نحلم ونخطط”.

ضرورة التحرك العالمي العاجل

أمام هذا الواقع، تبرز الحاجة الماسّة إلى تحرك دولي مُنسق يجمع بين تشديد القوانين الرقمية، وفرض رقابة صارمة على محتوى التوظيف الإلكتروني، وتعزيز الوعي المجتمعي حول أساليب الاحتيال المتطورة.

كما أن على شركات التكنولوجيا تحمّل مسؤوليتها الأخلاقية، وتوظيف أدوات الذكاء الاصطناعي في اكتشاف المحتوى الإجرامي بدلًا من أن تكون أدواتها في خدمة الجريمة.

في عصر التكنولوجيا الفائقة، قد يبدو من السهل تحويل الحلم إلى كابوس بضغطة زر، لكن لا تزال هناك فسحة للأمل، ما دام هناك وعي وتحقيق ومحاسبة.

إن مزارع الاحتيال الإلكتروني ليست فقط جريمة مالية، بل اعتداء على الكرامة الإنسانية في أوج صورها الرقمية. والتحدي الحقيقي أمام البشرية اليوم، هو أن تضمن أن يكون الذكاء الاصطناعي في صف الإنسان، لا أداةً لاغتياله المعنوي والاقتصادي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى