
في عصرٍ تتداخل فيه التقنيات مع تفاصيل حياتنا اليومية، لم تعد معايير الجمال محصورة بما هو بشري أو طبيعي، بل أصبحت تحكمها خوارزميات وتُصاغ داخل شاشات الحاسوب.
الشخصيات الافتراضية، التي خُلقت لأغراض ترويجية أو فنية أو ترفيهية، بدأت في السنوات الأخيرة تتحول إلى نماذج جمالية يُقاس بها الجمال البشري نفسه، حتى غدت بعض الشابات يتطلعن لأن يصبحن أشبه بكائنات رقمية لا تشوب ملامحها شائبة. فما الذي يحدث حين يصبح “الجمال المصنوع” هو المعيار؟
الوجه الرقمي الذي لا يشيخ
تتميز الشخصيات الافتراضية بوجوه متقنة التركيب، ملامح دقيقة، بشرة لا تشوبها ندبة، وجسد خالٍ من أي تفاوت طبيعي. إنها صور رقمية صُمّمت على يد فنانين ومبرمجين لتكون مثالًا للجاذبية المثالية، دون تدخل عناصر الطبيعة أو الوراثة أو حتى التقدّم في العمر.
هذه الصور لا تتأثر بالتعب أو المرض أو الانفعالات، بل تظل ثابتة في أناقتها وتوهجها، وكأن الزمن لا يمسّها. هذا “الوجه الذي لا يشيخ” أصبح مرجعًا بصريًا للعديد من المنصات، وأحيانًا للعلامات التجارية العالمية، الأمر الذي أثّر في وعي المتابعين بالجمال الطبيعي.
هوس المقارنة
أحد أخطر تداعيات بروز الشخصيات الافتراضية هو تفشي ثقافة المقارنة بين الجسد الحقيقي والجسد الرقمي. فالفتيات والمراهقات يجدن أنفسهن في مواجهة صور أنثوية لا تحتوي على أي من مظاهر العيوب الطبيعية، ما يدفع الكثيرات إلى الشعور بالنقص، والقلق من مظهرهن، بل أحيانًا إلى تبنّي أنظمة تجميل قاسية أو اللجوء إلى تدخلات جراحية للحصول على ما يشبه “الوجه الرقمي”. ومن هنا بدأنا نلاحظ انتشار “متلازمة المرآة” التي تدفع بالشخص إلى كراهية مظهره الواقعي لأنه لا يرقى إلى مستوى الصورة المتخيلة.
انهيار التنوع الجسدي
لطالما احتفت الإنسانية بتنوع ملامحها وأشكالها وألوانها، فالجمال لم يكن يومًا صورة موحدة. لكن مع صعود الشخصيات الافتراضية، التي تتشارك في كثير من الأحيان ملامح متشابهة: عيون واسعة، أنف صغير، فك محدد، قوام نحيل وممشوق… بدأ هذا التنوع ينهار لصالح قالب واحد، يُفرض بشكل غير مباشر على الجميع.
وقد ساهمت منصات العرض والإعلانات، بل وحتى صناع المحتوى، في تكريس هذه الصورة، مما أدى إلى تهميش الجمال المختلف، ورفض ما يُسمى بـ”الملامح غير المثالية”.
المراهقات في مرمى الخطر
الفتيات في مرحلة المراهقة هن أكثر الفئات عرضة للتأثر بما يُعرض على الشاشات، نظرًا لحساسيتهن تجاه النظرة الاجتماعية وحاجتهن إلى القبول والانتماء. ومع بروز الشخصيات الافتراضية، التي يتابعها الملايين ويحاكيها المؤثرون، بدأت الكثير من المراهقات يشعرن بأن عليهن التشبه بهذا النموذج ليكنّ محبوبات أو ناجحات أو حتى مقبولات في محيطهن. وقد انعكس هذا الشعور في سلوكيات مثل المبالغة في استخدام مساحيق التجميل، أو السعي إلى إجراء عمليات تجميلية، أو الانسحاب من التفاعل الاجتماعي خوفًا من “عدم الجاذبية”.
صناعة الوهم
من يقف خلف هذا التأثير؟ إنها شركات التقنية، وشركات الموضة، ومطورو الذكاء الاصطناعي الذين يرسمون خريطة الجمال المستقبلي وفق أهداف اقتصادية بالأساس. فكلما شعر الأفراد بعدم الرضا عن أنفسهم، زاد استهلاكهم للمنتجات، وارتفعت أرباح المؤسسات. بهذا المعنى، لا تُعدّ الشخصيات الافتراضية بريئة، بل تمثل واجهة ناعمة لمصالح تجارية ضخمة تستغل الحلم الإنساني الأبدي بـ”المظهر المثالي”.
الرد الطبيعي
في مواجهة هذا التيار الرقمي الجارف، بدأت بعض الحركات الإنسانية والفنية تدعو إلى استعادة معاني الجمال الواقعي: الجمال الذي يحتوي على البقع، والتجاعيد، والاختلافات الفردية، ويعكس الحياة والتجربة وليس القالب الواحد الجامد. هناك دعوات متزايدة إلى الاحتفاء بالاختلاف، وإظهار الوجوه الطبيعية في الإعلام، والتصدي لمحاولات تقييد الجمال في صورة رقمية ملساء لا تنتمي إلى الحقيقة.
إن الشخصيات الافتراضية، رغم جمالها المُتقن، ليست أكثر من صور صامتة لا تحمل حرارة الحياة، ولا آثار التعب أو الحزن أو الضحك الحقيقي. الجمال، في جوهره، هو تجلٍ للإنسان بما هو عليه، لا بما يجب أن يكون عليه. والسؤال اليوم لم يعد متعلقًا فقط بالشكل، بل بالهوية النفسية والثقافية.