
في الوقت الذي يشهد فيه العالم تحولات عمرانية متسارعة، تبرز “المدن الذكية” كأحد أبرز وجوه المستقبل العمراني الجديد. لم تعد هذه المدن مجرّد رؤى خيالية من أفلام الخيال العلمي، بل أصبحت نماذج حية تتجسد في أماكن متعددة من العالم، على رأسها الصين واليابان.
فما هي هذه المدن؟ وما الذي يجعلها “ذكية”؟ وما التحديات التي تواجهها في ظل التحوّل الرقمي العميق الذي يشهده كوكب الأرض؟
تعريف المدينة الذكية: تكنولوجيا في خدمة الحياة
تُعرف المدن الذكية بأنها تلك المدن التي توظّف التقنيات الرقمية الحديثة لجعل البنية التحتية أكثر فاعلية، ولتحسين جودة حياة السكان، وتسهيل الوصول إلى الخدمات، وتقليل استهلاك الموارد. وتشمل هذه التقنيات أنظمة المراقبة الذكية، والنقل الآلي، والطاقة المتجددة، وإدارة النفايات رقمياً، والتعليم عن بُعد، وحتى مراقبة البيئة والطقس لحظة بلحظة.
المدينة الذكية لا تقتصر على المباني العالية أو الإنترنت السريع، بل هي نمط حياة متكامل يعتمد على المعطيات، ويعيد تشكيل العلاقة بين المواطن والمساحة التي يعيش فيها.
الصين: مدن من رحم الخوارزميات
تعتبر الصين اليوم في طليعة الدول التي تستثمر بشكل مكثف في بناء مدن ذكية من الصفر. وأشهر مثال على ذلك مدينة “شيونغ آن” التي تم إنشاؤها بأمر مباشر من القيادة السياسية لتكون نموذجاً لمدينة خضراء وذكية في آن واحد. تم تصميم هذه المدينة لتُدار بواسطة شبكات من الحواسيب والخوارزميات، حيث تُضبط حركة المرور، وتُرصد جودة الهواء، ويُتحكم في استهلاك المياه والكهرباء بطريقة رقمية شاملة.
ولا يقتصر الأمر على “شيونغ آن”، فمدن مثل شينزين وهانغتشو أصبحت مختبرات حيّة لأنظمة المراقبة المتقدمة وإدارة الموارد الذكية. ففي هانغتشو، تعتمد المدينة على نظام مركزي يسمى “الدماغ المدني”، يقوم بجمع المعلومات من آلاف الكاميرات وأجهزة الاستشعار المنتشرة في المدينة، ليصدر قرارات فورية بشأن تنظيم المرور، أو التفاعل مع الحوادث، أو توزيع فرق الإنقاذ.
اليابان: الذكاء في خدمة الشيخوخة والتحديات البيئية
اليابان، بدورها، تقدم نموذجاً مختلفاً للمدينة الذكية، يركّز على التحديات الاجتماعية والديمغرافية. فمع ارتفاع نسبة كبار السن في المجتمع الياباني، وجدت الدولة نفسها مجبرة على تطوير حلول ذكية لتسهيل حياة هؤلاء السكان. ففي مدينة “فوجيساوا” الذكية، تم تصميم المرافق العامة لتكون ملائمة للمسنين، مع أنظمة مراقبة صحية شخصية، وإنارة تتفاعل مع الحركة، ووسائل نقل ذاتية القيادة.
كما تراعي المدن اليابانية الذكية البعد البيئي بشكل صارم. فالمنازل في مدينة “فوجيساوا” مثلاً تُبنى بطاقة استهلاك منخفض، ومزوّدة بألواح شمسية، وأنظمة تخزين للطاقة، ومراقبة للطقس والعوامل البيئية. ويُشجَّع السكان على المشاركة في إدارة الطاقة، مما يخلق وعياً جماعياً واستدامة حقيقية.
الرهانات: بين التحوّل الرقمي والسيادة البشرية
ورغم بريق هذه التجارب، فإن المدن الذكية تطرح تساؤلات حادة حول التوازن بين التكنولوجيا والإنسان. فهل يمكن أن يتحوّل الذكاء الاصطناعي إلى سلطة مطلقة في إدارة شؤون البشر؟ هل تسير هذه المدن نحو مراقبة شاملة تفقد فيها الحياة طابعها الإنساني؟ في الصين، مثلاً، هناك مخاوف من استخدام الأنظمة الذكية في تعزيز السيطرة الاجتماعية والسياسية، وهو ما يطرح جدلاً أخلاقياً واسعاً حول حدود استخدام التقنية في الفضاء العام.
من جهة أخرى، تعاني بعض المدن الذكية من فجوة رقمية داخل مجتمعاتها، إذ لا يمتلك كل السكان نفس القدرة على التفاعل مع الأدوات التكنولوجية المعقدة، مما يخلق تفاوتاً جديداً لا على أساس الدخل، بل على أساس المعرفة الرقمية.
مستقبل المدن: هل الذكاء كافٍ لبناء مدن عادلة؟
يبدو أن المدن الذكية قادمة لا محالة، وأن مستقبل البشرية سيُعاد تشكيله من خلال الخوارزميات والبيانات. ولكن الذكاء، مهما تطور، لا يكفي لبناء مدن عادلة وإنسانية. فلا بد أن تُصمم هذه المدن بروح تشاركية، تراعي احتياجات الجميع، وتدمج التكنولوجيا في خدمة الكرامة البشرية، لا في مراقبتها أو التحكم بها.
إن تجربة الصين في البناء السريع والمدفوع بالرؤية المركزية، وتجربة اليابان في معالجة التحديات الاجتماعية بالتكنولوجيا، كلاهما يكشف عن إمكانيات واسعة لتطويع المدن لحاجات الإنسان. لكن النجاح الحقيقي يكمن في الحفاظ على الإنسان في قلب المعادلة، لا كعنصر مراقَب، بل كصانع للمعنى والحياة.
المدن الذكية ليست نهاية الطريق
في النهاية، المدينة الذكية ليست غاية بحد ذاتها، بل وسيلة لتحقيق جودة حياة أفضل. ونجاحها لا يُقاس بعدد الكاميرات أو الأجهزة المتصلة بالإنترنت، بل بقدرتها على خلق فضاء آمن، عادل، ومستدام لجميع قاطنيها. وبينما تسير دول مثل الصين واليابان في طليعة هذا التحوّل، تبقى الأسئلة الأخلاقية والإنسانية معلقة، بانتظار إجابات تتجاوز حدود التقنية إلى جوهر الحياة نفسها.